استشهاد أطفال بيت لحم .. (باكورة شهداء المسيحية)
الأنبا مكاريوس
استشهاد أطفال بيت لحم
(باكورة شهداء المسيحية)
كما كانت بيت لحم مسرحًا في القديم للكثير من الأحداث (مثل صموئيل النبي وداود، وراحيل) هكذا وُلد فيها السيد المسيح وزاره الرعاة والمجوس، وبسببه قُتِل أطفالها... وهي التي تنبّأ عنها ميخا النبي: «أمّا أنتِ يا بَيتَ لَحمِ أفراتَةَ، وأنتِ صَغيرَةٌ أنْ تكوني بَينَ أُلوفِ يَهوذا، فمِنكِ يَخرُجُ لي الّذي يكونُ مُتَسَلِّطًا علَى إسرائيلَ، ومَخارِجُهُ منذُ القَديمِ، منذُ أيّامِ الأزَلِ» (ميخا 5: 2).
سمع هيرودس بخبر المجوس وأنهم يبحثون عن ملك دلّتهم دراساتهم الفلكية على أنه وُلِد بالفعل، فاستدعاهم وهم وليسو ثلاثة فقط بل آلاف يقودهم طغمة من الأمراء العلماء، وسمع هيرودس منهم وعرف من حساباتهم – التي من المؤكد أنهم شرحوها له، وتسلسل نبوات بلعام بن بعور – أن الملك المُشار إليه لابد وأن يكون قد وُلِد خلال عام.
اضطرب وكل أورشليم معه:
عبارة تحمل في طيّاتها مدى الرعب الذي أصابه شخصيًا، كما تعني أن ذلك الاضطراب والذعر سينعكس بشكل خطير على جميع سكان أورشليم المساكين، نظرًا لفهمهم طبيعة شخصية هيرودس ومزاجه الحادّ وشرهه لسفك الدماء.
ولكن كيف يرتعب هيرودس من مولود رضيع وكان في ذلك الوقت قد تخطّى السبعين من عمره؟! إن ذلك يحتاج إلى فهم طبيعة شخصية الرجل ونشأته ونفسيته:
1- هو أدومي، ابن أنتيباتر الأدومي الأصل صديق الرومان، وكان اليهود قد أَجبَروا الأدوميين على اعتناق اليهودية (في حدود السنة 125 ق.م ). ولذلك اعتبره اليهود مغتصبًا للمُلك، وكان هو يعرف ذلك جيدًا، مع أنه وبحسب الشريعة يُحسَب اليهودي الدخيل يهوديًا كاملاً في الجيل الثالث (راجع تثنية 23: 8)، إلّا أن ذلك كانت له خلفيات مكابية وتاريخ مؤلم من الصراع على السلطة. كما لا ننسى أن الأدوميين مع الموآبيين والعمّونيين هم أشد أعداء اليهود من الجيران، ولا سيما الأدوميين الذين دلّوا جنود نبوخذ نصر على مداخل اورشليم وتحصيناتها مما سهل عليهم تدميرها، وإلى ذلك أشار المزمور: «اُذكُرْ يا رَبُّ لبَني أدومَ يومَ أورُشَليمَ، القائلينَ: "هُدّوا، هُدّوا حتَّى إلَى أساسِها". يا بنتَ بابِلَ المُخرَبَةَ، طوبَى لمَنْ يُجازيكِ جَزاءَكِ الّذي جازَيتِنا! طوبَى لمَنْ يُمسِكُ أطفالكِ ويَضرِبُ بهِمُ الصَّخرَةَ !» (مزمور 137: 7-9)
2- كان الجو كله معبّئًا بالحديث عن المسيا الآتي، وكانت المحنة قد وصلت إلى الذروة، كما كان الأمل أشدّ إشراقًا من ذي قبل، ولم يكن هيرودس بغريب عن نبض الناس، مثلما كان لديه مستشارين دينيين من اليهود. لا سيما وقد ارتبطت صورة المسيح في الأذهان باسترداد المُلك المُغتصَب وعودة اليهود إلى الصدارة.
3- كان هيرودس مريضًا بالشك، فقد شكّ في كل من حوله حتي أسرته، يخشى مؤامرة القريبين قبل البعيدين. تزوج عشر نساء، أنجبن له أولادًا كثيرين جمعهم القصر، ولكنهم يتصارعون في سبيل شهوتهم للمُلك، ومن ثَمّ أصبح القصر مسرحًا للفتن والمؤامرات.
ففتك بمن حوله، لقد قتل كثيرين من أعضاء السنهدريم، ثم قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياتير، ثم قتل زوجته مريمنا وأمها، وقبيل موته أوصى باعتقال جميع شرفاء اليهودية حتى إذا أُعلِن خبر وفاته يعمّ الحزن الجميع، إذ أدرك أن الشعب سيفرح بموته هو، فأراد أن يحرمهم هذا. كما أصبح شرها لأكل اللحوم فأُصيب بداء النقرس والاستسقاء، وصارت رائحته كريهة بحيث لم يقدر أحد على الدنو منه... وبعد قتله لأطفال بيت لحم بثلاثة شهور قضى...
هكذا رؤوس الأشجار تهزّها الرياح الخفيفة، بعكس تلك التي في الوادي، هكذا كانت الشائعات تقلق هيرودس...
هيرودس يكذب ويمكر... والله يأخذ الحكماء بمكرهم (أي يسقيهم من نفس الكأس)
مع ذلك أوحى هيرودس إلى المجوس بأنه شغوف ومتشوّق مثلهم لرؤية الملك المولود أيضًا، وأدرك أنه لن يستطيع الوصول إليه إلاّ أولئك الذين عرفوا قصته، ولذلك فقد شجّعهم على البحث عنه، ولكن الله أوحى إليهم في حلم ألا يعودوا إليه بعد لقاء المولود، لعدم استقامة قلبه. ولكن هيرودس انتظر طويلاً، ولكنهم لم يعودوا إليه لأنهم عادوا من طريق أخرى بعد أن هداهم نجمهم إليه في بيت لحم وقّدموا له الهدايا (في بيت وليس في المذود) تاركين أورشليم (راجع متى 2: 7-12).
عند هذا الحد أدرك الملك المغرور ليس أنه فقط قد خُدِع من المجوس، بل أن الملك المولود تاه منه بين عشرات الأطفال، وأنه لن يستطيع بالتالي تمييزه عن الآخرين، ولن يقبل أحد أن يدلّه عليه.
(عولجت هذه القصة بأشكال كثيرة أسطورية مثل ألف ليلة وليلة عن ملك سقط وآخر وُلِد، ومنجّمين وسحرة يدخلون الأحداث، وظواهر طبيعية ترافق الملك المولود، لقد ألهبت خيال أدباء كثيرين مثلما حدث في قصص الطوفان والبرج وغيرها، ولكن الأساس هو الكتاب المقدس والذي هو أعظم وثيقة).
الأمر بقتل الأطفال:
على سبيل الاحتياط أمر هيرودس بقتل جميع ذكور أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون حتى يضمن أن الطفل المقصود سيكون بينهم، فالفارق الزمني بين ولادة يسوع وفرار المجوس لا يتعدّى السنة وإنما أقل، ولكن الملك المطارَد من نفسه، أمر بقتل أحدث مولود إلى آخر مولود أتمّ سنتين، وذلك حتى يضمن وجود الملك الطفل فيما بينهم.
ويتساءل البعض: هل تم ذلك بالاتفاق مع أغسطس قيصر؟ حيث ذكرت بعض التقاليد أنه احتال على السكّان هناك لعمل إحصاء بحسب أمر القيصر وذلك للفئة المذكورة من الأطفال، حيث تمكّن بذلك من حصرهم... أم جَمَعَ الأطفال المستهدَفين إلى مكان ما وقتلهم هناك؟
تم القتل في ـبريل 4 ق.م. وأمَا عن عدد الذين قتلهم فلا يتخطّى العشرين، فالقرية بمفردها لم يكن يزيد عدد سكانها آنذاك عن ألف نسمة. إلّا إذا كان هلعه قد دفعه إلى قتل الأطفال في مساحة أكبر. وفي هذه الحالة أيضًا لن يتخطى العدد بضع عشرات من الشهداء الأطفال. ومن هنا فإنه سيكون من المستبعَد تصديق ما ورد في بعض التقاليد من أن هيرودس قد أرسل ألف جندي لقتل 144.00 على جبل واحد!
ولكن لماذا لم يذكر التاريخ المدني ذلك؟ هل لأن ذلك العصر كان مليئًا بالفتن والوشاية والخيانة والدماء والقتل، وبالتالي سيكون قتل أطفال بيت لحم شيئًا يسيرًا لما اقترفه هيرودس من جرائم؟ وهذا بالتالي يفسِّر لماذا لم يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي الحادثة.
بين المجوس وقتل الاطفال:
هناك رابط قوي بين الروايتين، إن قصة المجوس لم تُذكَر لذاتها، ولكن لارتباطها بقتل الأطفال، وبالرحلة إلى مصر. فإن موضوع قتل الأطفال ذو أهمية خاصة لأنه ينمّ عن شخصية هيرودس الدموية، وعن الأخطار التي أحاطت بالمسيا عند ولادته، كما أنه يبيّن سبب الزيارة لمصر ثم الاقامة في الناصرة، وهذه النقطة الأخيرة هي لُبّ الموضوع، لذلك يفرد لها الإنجيل مكانًا خاصًّا ويذكر أيضًا الشاهد الخاص بها (متى 2: 19-23؛ لوقا 2: 39). ومحور الاهتمام في الجزء المختص بهيرودس والمجوس هو الإقامة في الناصرة، فالغرض الواضح من القصة هو شرح سبب إقامة وارث بيت داود – المولود في بيت لحم – في الناصرة. وهكذا تكتمل الرواية من بشارتي متى ولوقا، فأحدهما يذكر العودة إلى الناصرة بعد الهروب والآخر يذكر قصة المجوس وقتل الأطفال. لقد ظنّ البعض أن قصة المجوس هي نوع من الزخارف الأدبية، ولكن العهد القديم يشير إلى سكناه في الناصرة، ولكن كيف سارت الأمور ليسكن في الناصرة؟ هذا ما وضّحته لنا حادثة زيارة المجوس وقتل الأطفال.
ويؤخَذ جدًّا في الاعتبار أن كلًّا من المسيحيين واليهود لهم حساسية خاصة تجاه السحرة والمنجمين، ولكن الأمر لم يكن سحرًا بل جدٌّ ونبوات وتقليد. فهوذا بلعام الجدّ يقول: «أراهُ ولكن ليس الآنَ. أُبصِرُهُ ولكن ليس قريبًا. يَبرُزُ كوكَبٌ مِنْ يعقوبَ، ويَقومُ قَضيبٌ مِنْ إسرائيلَ، فيُحَطِّمُ طَرَفَيْ موآبَ، ويُهلِكُ كُلَّ بَني الوَغَى» (عدد 24: 17).
كذلك من الأدلّة على صحة الواقعة الدهاء الذي تصرّف به هيرودس في الموقف بأكمله، والذي جاء متفقًا مع طبيعته. من جهة اهتمام الملك الظاهري بأمر المجوس، واجتماعه السري المهيب بقادة اليهود ممثلاً دور السائل الجاد، وسؤاله الملحّ طالبًا المعرفة حتي يسجد له هو أيضًا، ثم ما أعقب ذلك من غضب سريع عندما خدعوه ( لاحظ عبارة «غَضِبَ جِدًّا» في العدد السادس عشر، عن الكلمة اليونانية "ايتوموت" التي لا ترد في أي موضع آخر من العهد الجديد!)، ثم الضربة الانتقامية العمياء الرهيبه التي قام بها.. كل هذه الأمور تتفق مع طبيعة الرجل والجو الذي كان يحيط به على الدوام. حتى إننا نجد أنفسنا مضطرّين للتسليم بأن ما أمامنا هو تاريخ صادق مستقى رأسًا من شاهد عيان للأحداث، وليس مجرد عمل قصّاص بارع.
ويسجل لنا التقليد الكنسي أن القديس يوحنا المعمدان كان ضمن الأطفال المستهدفين، وقد وضعه أبوه زكريا الكاهن – بحسب هذا التقليد - فوق المذبح، وكأنه يقول للرب: "هوذا الذي الذي أعطيتنيه بعد طول انتظار يسعى إليه هيرودس ليقتله"، ومن هناك حمله ملاك الرب إلى البرّية حيث ظلّ هناك إلى يوم ظهوره لإسرائيل. ولكن ما فشل فيه هيرودس الأب فعله هيرودس الابن والذي قتل يوحنا إكراما لهيروديّا...
المئة والأربعة والأربعون ألفًا:
يقول القديس الرائي ما سمعه: «وصَرَخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلينَ: "حتَّى مَتَى أيُّها السَّيِّدُ القُدّوسُ والحَقُّ، لا تقضي وتنتَقِمُ لدِمائنا مِنَ السّاكِنينَ علَى الأرضِ؟" فأُعطوا كُلُّ واحِدٍ ثيابًا بيضًا، وقيلَ لهُمْ أنْ يَستَريحوا زَمانًا يَسيرًا أيضًا حتَّى يَكمَلَ العَبيدُ رُفَقاؤُهُمْ، وإخوَتُهُمْ أيضًا، العَتيدونَ أنْ يُقتَلوا مِثلهُمْ» (رؤيا6: 10-11). وقال إن التسبحة التي يسبِّح بها الأربعة الحيوانات والشيوخ لا يعرفها إلّا المئة والأربعة والأربعون ألفًا، هؤلاء الأبكار الذين لم يتنجّسوا من النساء لأنهم أطهار، وهم مع الرب كل حين يمسح كل دمعة من عيونهم، فطوبى لهم وطوبى للبطون التي حملتهم. شفاعتهم (رؤيا14: 1-3) .
ولكن لماذا 144000 كما ورد في ليتورجياتنا، كذلك في سفر الرؤيا؟ والإجابة أنهم يمثّلون كنيسة العهدين القديم والجديد يمثّلها 12 سبطًا و12 تلميذًا.. وهم بالتالي النفوس المكرّسة للسيد المسيح في كل جيل.
إن ذلك يذكّرنا بما فعله فرعون مع موسى، فقد أمر كلاً من الملكين بقتل الأطفال الذكور، خوفًا على مُلكه، وهرب الاثنان من وجه الملك؛ هذا في سفط في النيل ويسوع إلى مصر... وكان الصبي موسى جميلاً، وأمّا يسوع فهو أبرع جمالاً من بني البشر (مزمور 45: 2)، موسى يرمز إلى السيد المسيح، ذاك صار عظيمًا وهذا: الإله الفادي الأعظم... أرسل لله موسى لاستبقاء حياة بني إسرائيل، وكذلك أرسل الآب ابنه فاديًا ومخلصًّا.. عن طريق موسى أعطى طعام المن والسلوى، والسيد المسيح هو خبز الحياة الحقيقي، وعوض المن جسده ودمه الأقدسين.
صراخ وبكاء وعويل:
امتلأت البلدة نواحًا من بشاعة الحادث، وهنا يتذكّر القديس متى "راحيل" لأن قبرها قريب من ذلك المكان (تكوين 35: 19)، وراحيل تبكي أولادها... فهي زوجة يعقوب إسرائيل، والذي هو أبو الأسباط كلها (أبو جميع اليهود). وبالرجوع لسفر إرميا نجد أنه عند سبي بابل تجمّع المسبيون في إحدى محطّاتهم عند الرامة حيث قبرها، وذلك تمهيدًا لنقلهم إلى بابل، وهناك كان بكاء وعويل من الذاهبين إلى السبي، والرامة أيضًا تقع في المنطقة الفاصلة بين المملكتين الجنوبية والشمالية (ملوك الأول 15: 17)، (أخبار الأيام الثاني 16: 1) وعلي بعد خمسة أميال من أورشليم: «هكذا قالَ الرَّبُّ: صوتٌ سُمِعَ في الرّامَةِ، نَوْحٌ، بُكاءٌ مُرٌّ. راحيلُ تبكي علَى أولادِها، وتأبَى أنْ تتعَزَّى عن أولادِها لأنَّهُمْ لَيسوا بمَوْجودينَ». (إرميا 31: 15).
والآن تبكي أيضًا أولادها من جديد فالله إله أحياء، ولا تريد أن تتعزي لأنهم ليسو بموجودين، ولكن إرميا يعود فيعزيها قائلاً: «هكذا قالَ الرَّبُّ: امنَعي صوتكِ عن البُكاءِ، وعَينَيكِ عن الدُّموعِ، لأنَّهُ يوجَدُ جَزاءٌ لعَمَلِكِ، يقولُ الرَّبُّ. فيَرجِعونَ مِنْ أرضِ العَدوِّ. ويوجَدُ رَجاءٌ لآخِرَتِكِ، يقولُ الرَّبُّ. فيَرجِعُ الأبناءُ إلَى تُخُمِهِمْ» (إرميا31: 17،16).
هكذا تبكي الكنيسة أولادها غير الموجودين!!!
مثلما ذكر القديس بولس عن البعض أنه يذكرهم بدموع الآن (فيلبي 3: 18)، ومنهم ديماس الذي تركه (تيموثاوس الثانية 4: 10)... ولن تتعزّى الكنيسة حتى يمتلئ بيتها بكل أولادها... مثلما تبلغ الفرحة مداها باجتماع شمل الأسرة في مناسبات مثل الأعياد.
هؤلاء هم الشهداء الأوائل الذين سقطوا على اسم المسيح بعد ولادته بالجسد،. أنهم مقدّمة للحَمَل الجديد الذي سيتألّم ويُذبَح لأجل خلاصنا. وقد قُدَّموا كذبيحة أولى لميلاد المسيح الإله الطاهر وقُدِّموا له كباكورات، وصار لهم أن يتهلّلوا لأنهم ذُبِحوا من أجل المسيح.
يبدو أيضًا أن مقتل أطفال بيت لحم كان مثالاً ومقدّمة لما ستعانيه الكنيسة على مدار تاريخها، وإيذانًا بتمام وعود الله بأنبيائه في شخص الصبي يسوع.
ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.
الأنبا مكاريوس
استشهاد أطفال بيت لحم
(باكورة شهداء المسيحية)
كما كانت بيت لحم مسرحًا في القديم للكثير من الأحداث (مثل صموئيل النبي وداود، وراحيل) هكذا وُلد فيها السيد المسيح وزاره الرعاة والمجوس، وبسببه قُتِل أطفالها... وهي التي تنبّأ عنها ميخا النبي: «أمّا أنتِ يا بَيتَ لَحمِ أفراتَةَ، وأنتِ صَغيرَةٌ أنْ تكوني بَينَ أُلوفِ يَهوذا، فمِنكِ يَخرُجُ لي الّذي يكونُ مُتَسَلِّطًا علَى إسرائيلَ، ومَخارِجُهُ منذُ القَديمِ، منذُ أيّامِ الأزَلِ» (ميخا 5: 2).
سمع هيرودس بخبر المجوس وأنهم يبحثون عن ملك دلّتهم دراساتهم الفلكية على أنه وُلِد بالفعل، فاستدعاهم وهم وليسو ثلاثة فقط بل آلاف يقودهم طغمة من الأمراء العلماء، وسمع هيرودس منهم وعرف من حساباتهم – التي من المؤكد أنهم شرحوها له، وتسلسل نبوات بلعام بن بعور – أن الملك المُشار إليه لابد وأن يكون قد وُلِد خلال عام.
اضطرب وكل أورشليم معه:
عبارة تحمل في طيّاتها مدى الرعب الذي أصابه شخصيًا، كما تعني أن ذلك الاضطراب والذعر سينعكس بشكل خطير على جميع سكان أورشليم المساكين، نظرًا لفهمهم طبيعة شخصية هيرودس ومزاجه الحادّ وشرهه لسفك الدماء.
ولكن كيف يرتعب هيرودس من مولود رضيع وكان في ذلك الوقت قد تخطّى السبعين من عمره؟! إن ذلك يحتاج إلى فهم طبيعة شخصية الرجل ونشأته ونفسيته:
1- هو أدومي، ابن أنتيباتر الأدومي الأصل صديق الرومان، وكان اليهود قد أَجبَروا الأدوميين على اعتناق اليهودية (في حدود السنة 125 ق.م ). ولذلك اعتبره اليهود مغتصبًا للمُلك، وكان هو يعرف ذلك جيدًا، مع أنه وبحسب الشريعة يُحسَب اليهودي الدخيل يهوديًا كاملاً في الجيل الثالث (راجع تثنية 23: 8)، إلّا أن ذلك كانت له خلفيات مكابية وتاريخ مؤلم من الصراع على السلطة. كما لا ننسى أن الأدوميين مع الموآبيين والعمّونيين هم أشد أعداء اليهود من الجيران، ولا سيما الأدوميين الذين دلّوا جنود نبوخذ نصر على مداخل اورشليم وتحصيناتها مما سهل عليهم تدميرها، وإلى ذلك أشار المزمور: «اُذكُرْ يا رَبُّ لبَني أدومَ يومَ أورُشَليمَ، القائلينَ: "هُدّوا، هُدّوا حتَّى إلَى أساسِها". يا بنتَ بابِلَ المُخرَبَةَ، طوبَى لمَنْ يُجازيكِ جَزاءَكِ الّذي جازَيتِنا! طوبَى لمَنْ يُمسِكُ أطفالكِ ويَضرِبُ بهِمُ الصَّخرَةَ !» (مزمور 137: 7-9)
2- كان الجو كله معبّئًا بالحديث عن المسيا الآتي، وكانت المحنة قد وصلت إلى الذروة، كما كان الأمل أشدّ إشراقًا من ذي قبل، ولم يكن هيرودس بغريب عن نبض الناس، مثلما كان لديه مستشارين دينيين من اليهود. لا سيما وقد ارتبطت صورة المسيح في الأذهان باسترداد المُلك المُغتصَب وعودة اليهود إلى الصدارة.
3- كان هيرودس مريضًا بالشك، فقد شكّ في كل من حوله حتي أسرته، يخشى مؤامرة القريبين قبل البعيدين. تزوج عشر نساء، أنجبن له أولادًا كثيرين جمعهم القصر، ولكنهم يتصارعون في سبيل شهوتهم للمُلك، ومن ثَمّ أصبح القصر مسرحًا للفتن والمؤامرات.
ففتك بمن حوله، لقد قتل كثيرين من أعضاء السنهدريم، ثم قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياتير، ثم قتل زوجته مريمنا وأمها، وقبيل موته أوصى باعتقال جميع شرفاء اليهودية حتى إذا أُعلِن خبر وفاته يعمّ الحزن الجميع، إذ أدرك أن الشعب سيفرح بموته هو، فأراد أن يحرمهم هذا. كما أصبح شرها لأكل اللحوم فأُصيب بداء النقرس والاستسقاء، وصارت رائحته كريهة بحيث لم يقدر أحد على الدنو منه... وبعد قتله لأطفال بيت لحم بثلاثة شهور قضى...
هكذا رؤوس الأشجار تهزّها الرياح الخفيفة، بعكس تلك التي في الوادي، هكذا كانت الشائعات تقلق هيرودس...
هيرودس يكذب ويمكر... والله يأخذ الحكماء بمكرهم (أي يسقيهم من نفس الكأس)
مع ذلك أوحى هيرودس إلى المجوس بأنه شغوف ومتشوّق مثلهم لرؤية الملك المولود أيضًا، وأدرك أنه لن يستطيع الوصول إليه إلاّ أولئك الذين عرفوا قصته، ولذلك فقد شجّعهم على البحث عنه، ولكن الله أوحى إليهم في حلم ألا يعودوا إليه بعد لقاء المولود، لعدم استقامة قلبه. ولكن هيرودس انتظر طويلاً، ولكنهم لم يعودوا إليه لأنهم عادوا من طريق أخرى بعد أن هداهم نجمهم إليه في بيت لحم وقّدموا له الهدايا (في بيت وليس في المذود) تاركين أورشليم (راجع متى 2: 7-12).
عند هذا الحد أدرك الملك المغرور ليس أنه فقط قد خُدِع من المجوس، بل أن الملك المولود تاه منه بين عشرات الأطفال، وأنه لن يستطيع بالتالي تمييزه عن الآخرين، ولن يقبل أحد أن يدلّه عليه.
(عولجت هذه القصة بأشكال كثيرة أسطورية مثل ألف ليلة وليلة عن ملك سقط وآخر وُلِد، ومنجّمين وسحرة يدخلون الأحداث، وظواهر طبيعية ترافق الملك المولود، لقد ألهبت خيال أدباء كثيرين مثلما حدث في قصص الطوفان والبرج وغيرها، ولكن الأساس هو الكتاب المقدس والذي هو أعظم وثيقة).
الأمر بقتل الأطفال:
على سبيل الاحتياط أمر هيرودس بقتل جميع ذكور أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون حتى يضمن أن الطفل المقصود سيكون بينهم، فالفارق الزمني بين ولادة يسوع وفرار المجوس لا يتعدّى السنة وإنما أقل، ولكن الملك المطارَد من نفسه، أمر بقتل أحدث مولود إلى آخر مولود أتمّ سنتين، وذلك حتى يضمن وجود الملك الطفل فيما بينهم.
ويتساءل البعض: هل تم ذلك بالاتفاق مع أغسطس قيصر؟ حيث ذكرت بعض التقاليد أنه احتال على السكّان هناك لعمل إحصاء بحسب أمر القيصر وذلك للفئة المذكورة من الأطفال، حيث تمكّن بذلك من حصرهم... أم جَمَعَ الأطفال المستهدَفين إلى مكان ما وقتلهم هناك؟
تم القتل في ـبريل 4 ق.م. وأمَا عن عدد الذين قتلهم فلا يتخطّى العشرين، فالقرية بمفردها لم يكن يزيد عدد سكانها آنذاك عن ألف نسمة. إلّا إذا كان هلعه قد دفعه إلى قتل الأطفال في مساحة أكبر. وفي هذه الحالة أيضًا لن يتخطى العدد بضع عشرات من الشهداء الأطفال. ومن هنا فإنه سيكون من المستبعَد تصديق ما ورد في بعض التقاليد من أن هيرودس قد أرسل ألف جندي لقتل 144.00 على جبل واحد!
ولكن لماذا لم يذكر التاريخ المدني ذلك؟ هل لأن ذلك العصر كان مليئًا بالفتن والوشاية والخيانة والدماء والقتل، وبالتالي سيكون قتل أطفال بيت لحم شيئًا يسيرًا لما اقترفه هيرودس من جرائم؟ وهذا بالتالي يفسِّر لماذا لم يذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي الحادثة.
بين المجوس وقتل الاطفال:
هناك رابط قوي بين الروايتين، إن قصة المجوس لم تُذكَر لذاتها، ولكن لارتباطها بقتل الأطفال، وبالرحلة إلى مصر. فإن موضوع قتل الأطفال ذو أهمية خاصة لأنه ينمّ عن شخصية هيرودس الدموية، وعن الأخطار التي أحاطت بالمسيا عند ولادته، كما أنه يبيّن سبب الزيارة لمصر ثم الاقامة في الناصرة، وهذه النقطة الأخيرة هي لُبّ الموضوع، لذلك يفرد لها الإنجيل مكانًا خاصًّا ويذكر أيضًا الشاهد الخاص بها (متى 2: 19-23؛ لوقا 2: 39). ومحور الاهتمام في الجزء المختص بهيرودس والمجوس هو الإقامة في الناصرة، فالغرض الواضح من القصة هو شرح سبب إقامة وارث بيت داود – المولود في بيت لحم – في الناصرة. وهكذا تكتمل الرواية من بشارتي متى ولوقا، فأحدهما يذكر العودة إلى الناصرة بعد الهروب والآخر يذكر قصة المجوس وقتل الأطفال. لقد ظنّ البعض أن قصة المجوس هي نوع من الزخارف الأدبية، ولكن العهد القديم يشير إلى سكناه في الناصرة، ولكن كيف سارت الأمور ليسكن في الناصرة؟ هذا ما وضّحته لنا حادثة زيارة المجوس وقتل الأطفال.
ويؤخَذ جدًّا في الاعتبار أن كلًّا من المسيحيين واليهود لهم حساسية خاصة تجاه السحرة والمنجمين، ولكن الأمر لم يكن سحرًا بل جدٌّ ونبوات وتقليد. فهوذا بلعام الجدّ يقول: «أراهُ ولكن ليس الآنَ. أُبصِرُهُ ولكن ليس قريبًا. يَبرُزُ كوكَبٌ مِنْ يعقوبَ، ويَقومُ قَضيبٌ مِنْ إسرائيلَ، فيُحَطِّمُ طَرَفَيْ موآبَ، ويُهلِكُ كُلَّ بَني الوَغَى» (عدد 24: 17).
كذلك من الأدلّة على صحة الواقعة الدهاء الذي تصرّف به هيرودس في الموقف بأكمله، والذي جاء متفقًا مع طبيعته. من جهة اهتمام الملك الظاهري بأمر المجوس، واجتماعه السري المهيب بقادة اليهود ممثلاً دور السائل الجاد، وسؤاله الملحّ طالبًا المعرفة حتي يسجد له هو أيضًا، ثم ما أعقب ذلك من غضب سريع عندما خدعوه ( لاحظ عبارة «غَضِبَ جِدًّا» في العدد السادس عشر، عن الكلمة اليونانية "ايتوموت" التي لا ترد في أي موضع آخر من العهد الجديد!)، ثم الضربة الانتقامية العمياء الرهيبه التي قام بها.. كل هذه الأمور تتفق مع طبيعة الرجل والجو الذي كان يحيط به على الدوام. حتى إننا نجد أنفسنا مضطرّين للتسليم بأن ما أمامنا هو تاريخ صادق مستقى رأسًا من شاهد عيان للأحداث، وليس مجرد عمل قصّاص بارع.
ويسجل لنا التقليد الكنسي أن القديس يوحنا المعمدان كان ضمن الأطفال المستهدفين، وقد وضعه أبوه زكريا الكاهن – بحسب هذا التقليد - فوق المذبح، وكأنه يقول للرب: "هوذا الذي الذي أعطيتنيه بعد طول انتظار يسعى إليه هيرودس ليقتله"، ومن هناك حمله ملاك الرب إلى البرّية حيث ظلّ هناك إلى يوم ظهوره لإسرائيل. ولكن ما فشل فيه هيرودس الأب فعله هيرودس الابن والذي قتل يوحنا إكراما لهيروديّا...
المئة والأربعة والأربعون ألفًا:
يقول القديس الرائي ما سمعه: «وصَرَخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلينَ: "حتَّى مَتَى أيُّها السَّيِّدُ القُدّوسُ والحَقُّ، لا تقضي وتنتَقِمُ لدِمائنا مِنَ السّاكِنينَ علَى الأرضِ؟" فأُعطوا كُلُّ واحِدٍ ثيابًا بيضًا، وقيلَ لهُمْ أنْ يَستَريحوا زَمانًا يَسيرًا أيضًا حتَّى يَكمَلَ العَبيدُ رُفَقاؤُهُمْ، وإخوَتُهُمْ أيضًا، العَتيدونَ أنْ يُقتَلوا مِثلهُمْ» (رؤيا6: 10-11). وقال إن التسبحة التي يسبِّح بها الأربعة الحيوانات والشيوخ لا يعرفها إلّا المئة والأربعة والأربعون ألفًا، هؤلاء الأبكار الذين لم يتنجّسوا من النساء لأنهم أطهار، وهم مع الرب كل حين يمسح كل دمعة من عيونهم، فطوبى لهم وطوبى للبطون التي حملتهم. شفاعتهم (رؤيا14: 1-3) .
ولكن لماذا 144000 كما ورد في ليتورجياتنا، كذلك في سفر الرؤيا؟ والإجابة أنهم يمثّلون كنيسة العهدين القديم والجديد يمثّلها 12 سبطًا و12 تلميذًا.. وهم بالتالي النفوس المكرّسة للسيد المسيح في كل جيل.
إن ذلك يذكّرنا بما فعله فرعون مع موسى، فقد أمر كلاً من الملكين بقتل الأطفال الذكور، خوفًا على مُلكه، وهرب الاثنان من وجه الملك؛ هذا في سفط في النيل ويسوع إلى مصر... وكان الصبي موسى جميلاً، وأمّا يسوع فهو أبرع جمالاً من بني البشر (مزمور 45: 2)، موسى يرمز إلى السيد المسيح، ذاك صار عظيمًا وهذا: الإله الفادي الأعظم... أرسل لله موسى لاستبقاء حياة بني إسرائيل، وكذلك أرسل الآب ابنه فاديًا ومخلصًّا.. عن طريق موسى أعطى طعام المن والسلوى، والسيد المسيح هو خبز الحياة الحقيقي، وعوض المن جسده ودمه الأقدسين.
صراخ وبكاء وعويل:
امتلأت البلدة نواحًا من بشاعة الحادث، وهنا يتذكّر القديس متى "راحيل" لأن قبرها قريب من ذلك المكان (تكوين 35: 19)، وراحيل تبكي أولادها... فهي زوجة يعقوب إسرائيل، والذي هو أبو الأسباط كلها (أبو جميع اليهود). وبالرجوع لسفر إرميا نجد أنه عند سبي بابل تجمّع المسبيون في إحدى محطّاتهم عند الرامة حيث قبرها، وذلك تمهيدًا لنقلهم إلى بابل، وهناك كان بكاء وعويل من الذاهبين إلى السبي، والرامة أيضًا تقع في المنطقة الفاصلة بين المملكتين الجنوبية والشمالية (ملوك الأول 15: 17)، (أخبار الأيام الثاني 16: 1) وعلي بعد خمسة أميال من أورشليم: «هكذا قالَ الرَّبُّ: صوتٌ سُمِعَ في الرّامَةِ، نَوْحٌ، بُكاءٌ مُرٌّ. راحيلُ تبكي علَى أولادِها، وتأبَى أنْ تتعَزَّى عن أولادِها لأنَّهُمْ لَيسوا بمَوْجودينَ». (إرميا 31: 15).
والآن تبكي أيضًا أولادها من جديد فالله إله أحياء، ولا تريد أن تتعزي لأنهم ليسو بموجودين، ولكن إرميا يعود فيعزيها قائلاً: «هكذا قالَ الرَّبُّ: امنَعي صوتكِ عن البُكاءِ، وعَينَيكِ عن الدُّموعِ، لأنَّهُ يوجَدُ جَزاءٌ لعَمَلِكِ، يقولُ الرَّبُّ. فيَرجِعونَ مِنْ أرضِ العَدوِّ. ويوجَدُ رَجاءٌ لآخِرَتِكِ، يقولُ الرَّبُّ. فيَرجِعُ الأبناءُ إلَى تُخُمِهِمْ» (إرميا31: 17،16).
هكذا تبكي الكنيسة أولادها غير الموجودين!!!
مثلما ذكر القديس بولس عن البعض أنه يذكرهم بدموع الآن (فيلبي 3: 18)، ومنهم ديماس الذي تركه (تيموثاوس الثانية 4: 10)... ولن تتعزّى الكنيسة حتى يمتلئ بيتها بكل أولادها... مثلما تبلغ الفرحة مداها باجتماع شمل الأسرة في مناسبات مثل الأعياد.
هؤلاء هم الشهداء الأوائل الذين سقطوا على اسم المسيح بعد ولادته بالجسد،. أنهم مقدّمة للحَمَل الجديد الذي سيتألّم ويُذبَح لأجل خلاصنا. وقد قُدَّموا كذبيحة أولى لميلاد المسيح الإله الطاهر وقُدِّموا له كباكورات، وصار لهم أن يتهلّلوا لأنهم ذُبِحوا من أجل المسيح.
يبدو أيضًا أن مقتل أطفال بيت لحم كان مثالاً ومقدّمة لما ستعانيه الكنيسة على مدار تاريخها، وإيذانًا بتمام وعود الله بأنبيائه في شخص الصبي يسوع.
ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
سلام ونعمه