العــذراء والكنيسة

العــذراء والكنيسة



من بين الألقاب الكثيرة التي تُطلق على السيدة العذراء، هناك لقب محبب إلى قلبها أطلقته هي على نفسها مرتين، هو لقبْ " أمة الرب " أي خادمة أو عبدة الرب.
فقالت مريم: ها أنا أمة للرب، فليكن لي حسب قولك (لوقا38:1) لأنه نظر إلى تواضع آمته... (لوقا48:1).
نحن لا نقدر أن نجد ألفاظاً تعبّر عن عظمة القديسة مريم، وعن مقدار الكرامة التي نالتها، وعن إمتيازها الفائق في الكنيسة. أما هي فما كانت تنظر إلى نفسها إلا على كونها آمة، خادمة متواضعة لربّها. كانت ترى أن كرامتها الحقيقية هي في إتضاعها، وإستسلامها كأمة للرب.

الله أحبَّ المتضعَّين المنتظرين الماسيا من أمثال زكريا الكاهن وأليصابات وسمعان الشيخ وحنه بنت فنوئيل ويوسف النجار، ولا شك أن القديسة مريم فاقتهم جميعاً تواضعاً وتلهفاً لمجئ الماسيا، لذلك أختارتها نعمة الله من أجل كونها أمة مسكينة، وأحبَّها الله جداً، وحققَّ فيها الأعجوبة الغريبة: أي الأمومة الإلهية !
" لأنه نظر إلى تواضع أمته، فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال " (لوقا48:1).
لقد عاشت العذراء مريم مسكينة بالروح، لأن روحها كانت روح أمة الرب وآتى يسوع بعد ذلك مؤسساً تطويباته: طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات. عاشت مريم حياتها بعيدة عن كل ما يلفت النظر. عاشت عيشة متواضعة عادية جداً، عاشت مشاركة عامة الشعب حياتهم اليومية في قرية صغيرة، هي ناصرة الجليل... الله يختار هذه الأشياء الزهيدة من هذا العالم كي يعلن فيها نعمته. ما كان يوجد في مريم إلا كل الفقر، وكل الإتضاع والمسكنة والحياة المستترة. كل ما سيأتيها بعد ذلك هو من نعمة الله، لمجد الله وحده. القوة البشرية حجاب يخفي قوة الله ومجده. حينما أختار الله العذراء مريم لتكون أماً له بالجسد، أختارها فقيرة ومتواضعة وغير معروفة كي يعلن فيها عظمة مجده، لم يكن في العذراء مريم شيء يحجب أو يقمع قوة الله العجيبة، كل شيء فيها مصدره النعمة وحدها لأنها هي في حد ذاتها مسكينة بالروح. إن نعمة الله المجانية تتلألأ فيها وتتألق.
إختيار الله للعذراء مريم الأمَةُ المسكينة، هو إفتضاح وعار لكل إنسان يعتز بقوته وسلطانه. إنه يشهر إفلاس كل فلسفة تنادي بأن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الله بمجهوداته الخاصة، وقدراته البشرية. إختيار تلك الأمة المتواضعة وضع نهاية لكبرياء الإنسان ولغى كل تشامخه...
  العذراء مريم مسكنتها علامة القوة، والنعمة، ومحبة الله المجانية القادرة على خلاص كل البشر لأن الله بذاته ينزل إلى عمق شقائنا البشري، ويشترك معنا في كل شيء، ويقودنا معه إلى مجد ملكوته.
القديسة مريم كأمة للرب، هي نموذج حيّ للكنيسة.
+ فالكنيسة في جوهرها خادمة لله... إنها أمة الرب في رسالة الكرازة، ورسالة التسبيح، ورسالة أعمال المحبة.
+ قداسة الكنيسة وسمو رسالتها، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخولّها حق التسلط والإدارة، الكنيسة المحبوبة من الله هي الكنيسة المسكينة، الكنيسة المقدسة الأمينة لله، وليست المتجّبرة السائدة على الأنصبة.
+ الكنيسة هي أولاً وقبل كل شيء، كنيسة المساكين بالروح، كما كان المسيح صديقاً للمساكين.
+ الكنيسة العظيمة في رسالتها، الصادقة في قداستها، هي الكنيسة المتضعة التي لا تعتمد على البشر حتى في أصغر أمورها، بل غايتها الوحيدة هي مجد الله وعمل نعمته.
+ الكنيسة تفضلّ الحياة المستترة، وكل عضو فيها حياته مستترة مع المسيح في الله... فالكنيسة المقدسة الأمينة لا تطلب أن تحدث شوشرة دعائية، ولا ثرثرة إعلامية، ولا تطلب كرامة من البشر ولا تبحث أن تكون مميزة، ولا أن يشار إليها، ولا تنفصل عن الناس. إنها تعيش في أفرادها العاديين من نساء ورجال، الذين يعيشون وسط الناس في ظروف حياتهم العادية. الشيء الوحيد الذي يميزها عن العالم هو الحق الذي تحمله في أعماقها وهذا يكسب حياتها طابع القداسة وطابع الحب الذي تنشره على أوسع نطاق.
+ الكنيسة كمثل العذراء مريم، تميل أن تسكن في بيوت بسيطة، وفي القرى غير المعروفة. وروحانية الكنيسة كائنة في حياتها المخفية... هذا لا يتعارض مع العبادات الجماهيرية في الكنيسة، والوعظ العلني. لأن القداس الجميل والوعظ من أجل خلاص البشر ينبعان من حياة داخلية قوية. ويعطيان للكنيسة بهاء وجلالاً.
+ الكنيسة لا تسعى لمصاحبة عظماء هذا العالم، ولكن كل مسّرتها في أن تحب الضعفاء الخطأة المساكين. إنها كرَّبها يسوع المسيح الذي كان يجلس مع العشارين والخطأة.
+ الكنيسة تضع الإنسان العادي في أعزّ مكان لها في قلبها.
+ إن كانت الكنيسة حقاً فقيرة ومسكينة، فعمل الله سيتلألأ خلالها في قداساتها وعظاتها... أما الكنيسة المعتمدة على غنى بشري: في الفكر أو الدبلوماسية، أو التخطيط، أو المال، أو الطاقة فمآلها الأندثار.
لذلك، فالضرورة تحتم على الكنيسة في وضعها كأمة متواضعة للرب، أن تنكر كل محاولات الإتكال على الذراع البشرية، وتكفر بقوة الإنسان، كي تتقبل عمل النعمة الخالصة فيها. فالله هو الذي ينظر إلى المتواضعين، ويقودهم إلى مجد ملكوته.
بعد تردد قصير بسبب عدم الفهم، صَدَّقت القديسة مريم كل ما قاله لها الملاك رغم غرابته، وآمنت أنها ستكون أُماً رغم عذراويتها... وبمسكنة الأمة، أستسلمت كلية بكل نقاوة الإيمان لعمل كلمة الله...

 حينما ساق لها الملاك موضوع حبل أليصابات رغم الشيخوخة والعقم، وقال لها: لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله أرتفعت القديسة مريم إلى مستوى الإيمان القادر على إنجاز المعجزات في طاعة وثقة. وأستسلمت لفعل القدير الذي سيصنع بها عظائم:
" ها أنا أمة للرب، فليكن لي بحسب قولك "

إيمان القديسة مريم هو: فعل تسليم، وفعل طاعة، وفعل ثقة.
1- فعل تسليم: ها أنا ! هذه حركة من حركات النقاوة العجيبة... والواقع أن المعجزة الحقيقية التي حدثت لزكريا، هي إتمام المعجزة رغم فقره في الإيمان.
أما العذراء مريم، فهي أولى المؤمنات والمؤمنين في المسيحية. إنها تبذل كل كيانها بكل فرح وطاعة وثقة في كلمة الله. قلبها المتواضع المسكين يشعر بالسلام والطمأنينة وهي بين يدي القدير.
كما أفتتح أب الآباء أبراهيم العهد القديم، ودشنَّهُ بفعل الإيمان، هكذا العذراء مريم في فجر العهد الجديد تردد نفس أصداء الإيمان بأكثر قوة. لذلك فهي تدعى بحق: أمُاً للمؤمنين ".
لقد وعد الله أبراهيم بنسل في الوقت الذي كان هو فيه قد صار شيخاً، وزوجته ساره كانت عجوزاً قضت طول حياتها وهي عاقر لا تلد. " فآمن أبراهيم بالله فحسب له براً (تكوين6:15). " فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أباً لأمم كثيرة... ولا بعدم إيمان أرتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطياً مجداً لله، وتيقن أن ما وُعد به هو قادر أن يفعله أيضاً " (رومية 18:4). فكان أبراهيم بهذا أعظم نموذج للإيمان.
لقد وضع الملاك جبرائيل مريم، في موقف مشابه تماماً للموقف الذي كان فيه أبراهيم وساره حينما سمع كلمة الله من فم الثلاثة رجال عند بلوطات ممراً. (تكوين1:18.
+ أخبر الملاك العذراء مريم عن حبل أليصابات التي كانت عاقراً، فآمنت. والثلاث رجال أخبروا أبراهيم عن حبل ساره أمرأته التي كانت عاقراً، فآمن.
+ الملاك يقول لمريم: " لأنه ليس أمر غير ممكن لدى الله " (لوقا37:1). والثلاثة رجال يقولون لأبراهيم: " هل يستحيل على الرب شيء " (تكوين14:18. نفس الموضوع، نفس الإيمان، وحتى نفس الكلمات بنفس الجرس الموسيقي !!!

 " ليس أمر غير ممكن لدى الله " ، من هذا نكتشف روعة إيمان العذراء مريم، وقوة ردّها الرصين العميق: " ها أنا أمة للرب فليكن لي بحسب قولك ". وخطر على بالها أب الآباء أبراهيم إذ قالت " كما كلَّم أبائنا لأبراهيم ونسله إلى الأبد.
* كل بركات العهد القديم من أبراهيم حتى العذراء مريم، كان بدايتها إيمان أبراهيم.
* وكل بركات العهد الجديد، كان بدايتها إيمان القديسة مريم.
رزانة كلمات القديسة مريم توضح مجد النعمة التي تملأها.
2- فعل الطاعة... ها أنا أمة الرب، القديسة مريم تقبل أن تدخل في خطة تدابير الله لخلاص البشرية، إنها تقبل الدور الخطير، والمسؤولية الإنقلابية بأن تكون أماً للماسيا. لم تقبل هذا الدور ليكون لها هي أي مجد أو فخار، بل قبلته كخدمة لله. إنها في هذا الدور ستتحمَّل الإنتقاد من أقرب المقربين إليها، وستتحمل شكوك يوسف لها... كل هذا أدخلته في حساباتها، وقبلته على نفسها، وتمَّ تنفيذه في طاعة كاملة خدمة لله. لم تناقش أمة الرب هذه الإعتراضات، بل تركتها كلها لرّبها وسيدها.
3- فعل الثقة... ليكن لي بحسب قولك. لقد أقتنعت القديسة مريم تماماً ووضعت ذاتها تحت تصرّف الرب بلا مجادلة... يا لها من بساطة مطلقة ونقاوة كاملة !! إنها تهب ذاتها بكل ثقة للقدير... وهي منعطفة بكل يقين إلى صدق مواعيد الله.
ستدرك أليصابات عظمة ذلك الإيمان الكائن في القديسة مريم فتهتف حين تراها: " طوبى للتي آمنت أن سيتم ما قيل لها من قبل الرب " (لوقا45:1). لا سيما وأن زوجها زكريا الكاهن يعاني أمامها من البكم بسبب تشككه.
لقد كان إيمان القديسة مريم إيماناً نامياً، وهذا هو الإيمان المسيحي الصحي:
1- يبدأ بالإستغراب والإستفهام عن كيفية التحقيق.
2- بعد ذلك ينضج إلى الإستنارة بكلمة الله، وعمل الروح القدس.
3- ثم يتحقق عملياً بفعل الطاعة والتسليم بكل ثقة.
إيمان العذراء نموذج حيّ لإيمان كل مسيحي يطلب الله. زكريا الكاهن ظل مرتاباً يطلب علامة بعد الرؤية التي رآها في الهيكل: " كيف أعلم هذا، لأني شيخ وأمرأتي متقدمة في أيامها ؟ " (لوقا18:1) أستمرّ زكريا في شكه، بالرغم من الرؤيا وكلمات الملاك. في حين أن القديسة مريم قبلت الوعد ووثقت فيه متسائلة فقط: كيف ! وهي لا تطلب علامة على الإطلاق... المقارنة بين البشارتين، تكشف بوضوح نقاوة إيمان مريم. سيبقى زكريا صامتاً بسبب عدم إيمانه: وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلَّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا. لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته (لوقا20:1). ما زال طابع العهد القديم باقياً في زكريا، طابع القلب البطيء في الإيمان.

 القديسة مريم بإيمانها الشديد، يمكن إعتبارها أماً للمؤمنين في العهد الجديد. إنها في الكنيسة نموذج للإيمان النقي المتجذر في أرض النعمة وكلمة الله.
+ الكنيسة لا يمكنها أن تعيش إلا بالإيمان، لأن الكنيسة بدون إيمان هي مجتمع ديني، تزيد قوته أو تنقص تبعاً لما يدعمها من السلطان الدنيوي.
+ إيمان الكنيسة يجب أن يكون كإيمان مريم: بذل وعطاء، وثقة لمجد الله.
+ الكنيسة تستمد قوتها من مناجاة عريسها بإستمرار في الصلوات والأسرار، وفي الإستماع إلى الإنجيل.
+ الكنيسة تحتضن كل الناس وتشعرهم بحبها وحنانها ورأفتها، مؤمنة أنهم أبناء الله.
+ الكنيسة المؤمنة، هي الكنيسة التي تعيش في طاعة الله، وليس في طاعة البشر، إنها تستلهم كل تدابيرها من الحق الذي تملكه في داخلها. ولا تتقيد بمنطق وفلسفات البشر، إنها بإستمرار تنظر إلى ربنا يسوع المسيح: قانونها هو قانونه، وحبّها هو حبه، ووصاياها هي وصاياه، وعدلها هو عدله.
+ الكنيسة لا تعترف بأي عقبة في الروح أو في الجسد تعوقها عن المناداة بالإنجيل، أو تحقيق الأخوة والعدل بين الناس.
+ الكنيسة المؤمنة تثق بوعد المسيح: إن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، لأنها هي جسد المسيح الحاملة في داخلها كلمة الله وقدسات حضوره. فكيف تقوى أبواب الجحيم عليها ؟
+ الكنيسة في فقرها البشري، تشعر أنها في ملء الغنى الإلهي إنها تحمل جسد ودم الرب المقام. وتقدمهما غذاء للمؤمنين. يمكنها أن تسير بثقة كاملة وسط عقبات التاريخ، وإضطهاداته وخياناته لها، وغدره به.






0 التعليقات:

إرسال تعليق

سلام ونعمه

يتم التشغيل بواسطة Blogger.