أيقونة
والدة الإله
" التفتيش عن الهالكين "
إن
العذراء مريم أم الله الفائقة القداسة إنما هي الشفيعة العظيمة الحارة المستعطفة
ابنها وإلهها من أجل الجنس البشري الخاطئ الضعيف. وهي التي تحفظ بثبات المؤمنين في
التجارب المتنوعة والأحزان العالمية وتجتذب من قعر هوّة الخطيئة وتلطف غضب الله
العادل وتتلافاه وتولي المساعدة السريعة في الأخطار وتنقذ من الموت الفجائي. ولذلك
اعتاد المسيحيون أن يستنجدوها كأنها رجاؤهم الوحيد الأخير في نكبات حوادث حياتهم
كما تعودوا في مثل هذه الظروف الصعبة أن يسموها في صلواتهم بإسم خاص: آلا وهو
"التفتيش عن الهالكين".
وعلى
هذا الأساس قامت في الكنيسة المقدسة من قديم الزمان عادة متبعة وهي أن تصوّر
أيقونات أم الله المسماة "التفتيش عن الهالكين".
ففي
منتصف القرن الثامن عشر تمجدت واحدة من هذه الأيقونات في قرية بوْر (Bor) القائمة
في ولاية كالوجة على حدود ولاية موسكا تقريبا بين مدينتي مالوياروسلافيتس
وسيربوخوف. ولم تحفظ معلومات مكتوبة عن هذه الأيقونة. وإنما جاء عنها في التسليم ما
يلي:-
في
ضيعة فيازوفنا التابعة لرعية قرية بور عاش من مئة وخمسين سنة أحد القرويين الأتقياء
ثيدوطوس ابن ألكسيوس أوبوخوف. وقد اشتهرت كنيسة قرية بور في ذلك الزمان بفقرها
المفرط. إذ كانت حللها الكهنوتية مصبوغة وأوانيها مطلية. وكان ثيدوطوس بن ألكسيوس
يساعد كنيسة رعيته هذه الفقيرة بمقدار ما يسمح له دخله ويزينها من نشاطه وحميّته
مقدما لها الأيقونات والآنية وغيرها.
وكان
هذا القرويّ تاجراً وقد عاش في مدينة بولخوف من ولاية أورلوف من حيث كان يجول في
الضيَع والقرى مبتاعاً الليف وبزور القنّب. فدهمته مرة على الطريق في إحدى سفراته
ليلا في الشتاء زوبعة عنيفة وجليد شديد قارس. فضلّ الطريق وتاه طويلاً وراح يرجو أن
يبلغ ولو ضيعَة ما. وأخيرا وهنت من فرسه القوى وانتهى إلى جانب هوّة لا تُجاز
واشتدت العاصفة وقرس البرد فاستحال عليه الجري إلى ما هو أبعد. وإذ لم يبق لهذا
المسافر التاعس من أمل في المساعدة البشرية استغاث مُعينة الجنس البشري السماوية
والدة الإله ووعد أن يصور نسخة عن أيقونتها: " التفتيش عن الهالكين" الموجودة في
كنيسة القديس جاورجيوس في مدينة بولخوف ويقدمها إلى كنيسة قريته إذا بقي حيّا يرزق.
وإذ
حلّ الفرس من العربة الزاحفة قرنه بها والتحف بما تسنى له واضطجع فيها ليستدفئ به
وأخذ يتهوّم ناعساً غير شاعر بأنه يجمد بالمرة من صبارة البرد. ولولا أن والدة
الإله سمعت لصلاته وفتشت عن الهالك لمات بعد دقائق قليلة. ولكن في هذا الوقت سمع
أحد القرويين فجأة في قرية مجاورة صوتاً تحت نافذة شباكه يقول: "خذوا"! وإذ هرع إلى
الباب نظر الفرس المقرون إلى العجلة كما عاين فيها أحد معارفه أعني به ثيدوطوس بن
أكلسيوس الذي كاد يجمد وقتئذ بالمرة، فتساءل القرويّ عمن جاء بفرس هذا المنكوب من
جانب الهوّة؟ ولكن بقي جاهلا ذلك. وما كاد أهل البيت ينقلون إليه ثيدوطوس حتى
أنبروا يدلكون أعضاء جسده ويفركونها ويدفئونها حتى أرجعوه إلى الحياة.
فلما
أفاق ثيدوطوس من مرضه أوضى أن تصوّر له نسخة عن الأيقونة: "التفتيش عن الهالكين" في
مدينة بولخوف كما وعد. فلما أعدّت النسخة نقلها أولا إلى بيته ومنه حملها على رأسه
إلى كنيسة قريته. ومن ذلك الحين أصبحت هذه الأيقونة إحدى القدسيات المعتبرة جداً في
كنيسة قرية بور وتمجدت بالعجائب. وعلى الرغم من فقدان لائحة هذه العجائب الخطيّة
فمؤلف الأناشيد لشرف هذه الأيقونة يشهد بها إذ يقول في إحداها: (لأنكِ جذبت قلبنا
أيتها العذراء النقية ببهاء أيقونتك وبمعجزاتها الباهرة بضياء الله). "الليتيا".
إن
المتعبدين لدى هذه الأيقونة العجائبية ينسلون إليها سنوياً من كل حدب جماهير.
وبسخائهم قامت كنيسة من حجر بديعة يحيط بها سور مقام الخشبية الفقيرة ولها قبة
أجراس وأوان غنية. وأفرغت على ذات
الأيقونة حلة مذهبة وزنها أكثر من أربعة آلاف (4000) درهم.
ومما
يقضي بالعجب أن مكان هذه الأيقونة في كنيسة بور قد دُلّ عليه بطريقة عجيبة. وذلك
أنه قبل تشييدها تخاصم ملاّكان متجاوران على أرض أي منهما يجب أن تُشيّد. لأن كلا
منهما أراد أن تشيد على أرضه هذه الكنيسة الجديدة. حينئذ رفعت السلطانة السماوية
نفسها الخصام من بينهما, وذلك أنه لما كان حينئذ وكيل الكنيسة المذكورة رجلاً تقيّا
رأى في الحلم أنه جاء إلى الكنيسة الخشبية القديمة وأخذ الأيقونة العجائبية
"التفتيش عن الهالكين" على رأسه ونقلها من الكنيسة وأقامها على ذات المكان الذي هي
فيه الآن من الكنيسة الجديدة. وفي أثناء هذا العمل سمع الوكيل صوتاً قائلاً: "ههنا
يكون مكان إقامتي". وبعد هذه الرؤيا صدر في الحال مرسوم المجمع المقدس قاضياً
بتشييد الكنيسة الجديدة قرب القديمة الخشبية على ذات الموضع الذي دُلّ عليه الوكيل
في الحلم.
وفي
وقت ٍنقل هذه الأيقونة العجائبية أيام الهواء الأصفر سنة 1871 إلى مدينة سيربوخوف
تمّ فيها عجب مدهش ألا وهو شفاء الصبي الأصَمّ المقعد الذي لما نظر الأيقونة قال:
هوذا التفتيش عن الهالكين". ولساعته انتصب على رجليه. وبعد نقل الأيقونة إلى
المدينة انتفى الهواء الأصفر منها. وتذكاراً لهذا الانقاذ من الداء المهلك قدم
أهالي مدينة سيربوخوف إلى كنيسة بور إنجيلاً ثميناً عليه صورة الأيقونة والكتابة
اللازمة.
إن
للأيقونة (التفتيش عن الهالكين) أجراماً كبيرة جداً. فطولها أكثر من ثلاثة أذرع
وعرضها ذراع وثلاثة أرباع الذراع. وعلى قسمها الفوقاني الذي هو في هيأة نصف دائرة
صُوّر ظهور الرب الإلهي تذكاراً لنجاة ثيدوطوس إبن ألكسيوس في يوم عيد الظهور
المقدس. فالملك السماوي يمثل فيه واقفا في مياه الأردن ليقبل المعمودية كإنسان
وإحدى يديه فوق الأخرى على صدره في هيأة محنّي بوداعة تحت يد يوحنا السابق. وفوق
هامته الروح القدس في هيأة حمامة مرسلات أشعة على ابن الله مرسوماً عليها صوت الله
الآب بهذه الكلمات القليلة: (هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت).
وعلى
جهة المخلص اليسرى صُوّر ملائكة ممسكون ثيابه بكل ورع. وعلى جهته اليمنى صوّر يوحنا
المعمدان متقدماً إلى الرب الملك وممسكاً بيده اليسرى ورقة برديّ مكتوباً عليها:
"توبوا فقد اقترب ملكوت السماء".
وعلى
القسم التحتاني صُوّرت الأم العذراء على مساحة ذراعين ورأسها مغطى وبين يديها ابن
الله وهي حانية له رأسها. أما هو فمصوّر واقفاً وممسكاً بيديه أمه الفائقة النقاء
البادية على وجهها روحها التي وهبته إياها بجملتها.
فإذا
ما نظرت إلى هذه الأيقونة العجائبية المقدسة ظهرت لك والدة الإله متجهة بنظرها
الوالدي إلى كل الذين يتعبدون لها مهما كان عددهم ومتهيأة لأن تمنح كلا منهم حسب
ملتمسه.
فنحن
في دقائق الفرح والابتهال نهتف لها: افرحي يا فرحنا! وفي ساعات الحزن الشديد نصرخ
إليها: (يا سيدة العالم ليس لنا تعزية سواك).
إن
الأيقونة العجائبية القديمة (التفتيش عن الهالكين) توجد أيضاً في قرية ماليجينة في
قضاء بوغودوخوف من أبرشية خاركوف في كنيسة رقاد السيدة. وفي التسليم أنها اقتنيت
نحو سنة 1770. وقد جمّلتها الملائكة لياسنيتسكايا بحلة فضية ذكراً لشكرها على
نجاتها من داء عياء. ولا يزال أبناء الكنيسة يلجئون إليها بإيمان خاص في أحزانهم
ونكباتهم. وفي وقت إعصار الهواء الأصفر ثلاث مرات في الجوار أنقذ أبناء الكنيسة في
المرات الثلاث من فعل هذا الوباء المهلك بالصلوات أمام هذه الأيقونة العجائبية.
وفي
قرية راكوف من ولاية سمار توجد أيضاً أيقونة والدة الإله العجائبية: "التفتيش عن
الهالكين" في دير الثالوث الأقدس للعذارى. ففي تشرين الثاني سنة 1896 نال الشفاء
بهذه الأيقونة الكسيوس ايفانوف كازاكوف قرويّ ضيعة بوتشاكامينكا في قضاء سمار
البالغ من العمر السنة الثامنة والخمسين.
ففي
فصح تلك السنة أخذه برد شديد في صدره فمرض وأخطر وتكوّن في فكّه الأعلى خرّاج كبير
فعولج بالجراحة ثلاث مرات وشقّ الخراج وكوي. ولكن كان يكبر بعد كل معالجة وقد شوّه
وجه كوزاكوف كله. وفيما عدا ذلك دهمه وجع مبرّح في الأسنان والرأس والعينين. ولما
جيء إلى قريته بأيقونة راكوف العجائبية ذهب وانطرح أمامها بالصلاة والإيمان فشعر في
تلك اللحظة أن وجع أسنانه كفّ وتحسنت حالة رأسه وانجلى بصره وبعد رجوعه إلى بيته
شعر بأنه تعافى تماماً.
إن
شماس قرية فيازوفكا في قضاء نيقولايفسكي بطرس كوند الينتسيف صُدِر فبرّح به الألم.
وفي شهر آب سنة 1898 لما اشتد به الداء لزم سريره واضطجع بلا حراك ستة أيام بكاملها
وما كان يقدر أن يجلس على السرير ولا أن يتحول على جنبه. ولم يقبل غذاء أيّاً كان
وإنما كان يقدر أن يشرب من إبريق الشاي فقط. وعندما كان يتحول على جنبه كان يدهمه
ألم مخيف في العمود الفقري والخاصرتين. وفي اليوم السادس عشر من شهر آب حملت إلى
بيته الأيقونة "التفتيش عن الهالكين" ورنّم أمامها دعاة الابتهال ونضح العيّان
بالماء المقدس وقبّل الأيقونة. وما أعيدت الأيقونة حتى تناول شيئاً من الطعام
وأغفى. ولما أفاق استطاع أن يجلس على سريره بلا مساعدة أحد بل وأن يغادره ويجول في
مقصورته. وفي اليوم التالي ذهب إلى الكنيسة وشعر بذاته أنه تعافى تماماً.
وفي
اليوم الثلاثين من حزيران سنة 1898 مرض باسيليوس ستابانوف لازاريف ساكن قرية بولنا
غلوشيتس مرضاً ثقيلاً جداً وهو في سن الثامنة والعشرين وما كان يستطيع أن يمشي ولا
أن يجلس. وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر تموز نقلت إلى بيته الأيقونة "التفتيش
عن الهالكين" لتُقام أمامها الصلاة الساهرة. فزحف العليل على ركبتيه إلى أيقونة
سلطانة السماء وقضى الوقت كله بالقرب منها مصلياً مع ذوي قرابته من أجل شفائه. وفي
الغد شرع يمشي بلا عائق. وفي شهر آب ذهب إلى كنيسة قرية أخرى فلقي الأيقونة وقدم
لها مصباحاً.
وقد
اشتهرت أيضاً أيقونات أخرى عجائبية ومكرمة محلياً لوالدة الإله معروفة بإسم
"التفتيش عن الهالكين" في الأماكن التالية: في كنيسة ميلاد المسيح في محلة بالاشاخ
في مدينة موسكا. وفي كنيسة القديس نقولاوس في زفونارياخ. وفي كنيسة القديس جاورجيوس
في مدينة بولخوف من ولاية أورلوف. وفي قرية كراسنوم من قضاء كونوتوب في ولاية تشير
نيغوف. وفي مدينة فورونيج، وفي مدينة كوزلوف من ولاية تامبوف. وفي أماكن أخرى. وفي
سنة 1835 شُيدت في موسكا كنيسة على إسم هذه الأيقونة في معهد اليتيمات الثقافي
العالي المعروف بإسم الكسندروفسكي نسبة إلى الإمبراطور اسكندر الأول.
0 التعليقات:
إرسال تعليق
سلام ونعمه