أحشائي! أحشائي!
جدران قلبي توجعني
القمص تادرس يعقوب ملطي
وُجد السفر
كان ذراعا التمثال النحاسي مبسوطين لا بالحب للناس وإنما لتقديم ذبائح بشرية في قسوة. إذ كان الكهنة والكاهنات يوقدون نارًا تحتهما حتى يتوهجان جدًا، فتأتي الأم برضيعها وتلقي به على الذراعين. ولكي لا يسمع أحد صرخات الرضيع وهو يحترق، كان الكهنة قساة القلب يضربون على الطبول وينشدون الأغاني بأصوات مرتفعة.
لقد عرف الملك أن الله يحرم الذبائح البشرية، ومع هذا فقدم طفله ذبيحة للإله ملوخ.
"هذه الآلهة الغريبة الباطلة صنعها الأمم، وهي لا تسمع ولا تتكلم ولا تتحرك. حطموها وتخلصوا منها، فإنه لا نفع لها، وتعجز عن أن تؤذيكم. ارجعوا إلى الله الحيّ وأصلحوا بيته المقدس الذي أفسدتموه".
سمع الملك كلمات هذا النبي الصغير القروي والخجول، فأحبه جدًا، وأحب كلماته ونصائحه. وأمر يوشيا الملك حلقيا رئيس الكهنة أن يهتم بإصلاح الهيكل.
بدأ العمل في جدية وانشغل المعماريون والبناءون والنجارون في إصلاح الهيكل وترميمه.
قال أحدهم وهو يرفع بيده درجًا (مخطوطة) قديمًا من وسط الأنقاض: "انظروا! ما هذا؟!" نفض الرجل التراب عن الدرج، وقدمه لحلقيا الذي قرأه، وأسرع نحو شافان كاتب الملك يقدم له الدرج، ويقول له: "قد وجدنا سفر الشريعة مخفيًا في بيت الرب". أخذ شافان الدرج وفتحه، وبدأ يقرأ فيه، عندئذ قال: "يجب علينا أن نقدمه للملك".
جاء شافان الكاتب إلى يوشيا الملك، وقال له: "لقد أعطاني حلقيا رئيس الكهنة هذا الدرج".
قال له الملك: "اقرأه بصوتٍ عالٍ".
بدأ شافان يقرأ بصوتٍ عالٍ للملك الشرائع المذكورة في الدرج، وقد جلس يوشيا صامتًا كمن قد سُحِرّ في مكانه، ينصت باهتمام شديد.
"اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا إله واحد؛
حبّ الرب بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك.
الله لا يحابي الوجوه،
يهتم بالأيتام، ويحب الغرباء الذين يأتون ليعيشوا في مدينتك.
وأنت يليق بك أن تحب الغرباء أيضًا، إذ كنت غريبًا في مصر.
لا تحابي أحدًا.
ولا تقبل رشوة.
ولتكن مقاييسك وأوزانك كاملة ودقيقة.
عندما تجمع حصادك تأكد أنك تترك بعض الحبوب في الحقل، وبعض الزيتون على الأغصان وعناقيد عنب على الكرمة حتى يأكل الفقير".
إذ سمع يوشيا ذلك بدأ يرتعب قليلاً قليلاً حتى قفز من فوق عرشه؛ وخلع تاجه، ومزق ثيابه الملوكية، وهو يقول:
"حتمًا الله غاضب علينا، إذ لا يوجد في يهوذا من ينفذ وصايا هذا السفر".
وقف يوشيا بجوار عمود، ووعد الله أن يسلك في طرقه، وأن يحفظ وصاياه المكتوبة في هذا السفر الذي وجدوه. وصرخ الشعب كله: "آمين".
كما أصدر الملك أوامره بهدم كل المذابح الوثنية فورًا، وسَحْق تمثال مولك. بهذا تحول وادي ابن هنوم إلى مقلب قمامة يُلقَى فيه كل قمامة أورشليم. كما أصدر أمره أن يُحتفل بعيد الفصح العظيم في أورشليم الذي لم يحتفلوا به منذ سنوات طويلة، كما قرأ الملك السفر.
فرح الشعب جدًا، وبدأوا يطيعون الأوامر، لكن سرعان ما رجعوا إلى طرقهم الشريرة القديمة. وكان إرميا النبي يلاحظ هذا كله. فكان في البداية متهللاً لتوبة الشعب ورجوعهم إلى الله، لكنه عاد فحزن جدًا لما وجدهم لا يحبون الله ولا يطيعون وصاياه
(راجع أخبار الأيام الثاني 34، 35).
النبي الصغير
نشأ إرميا في قرية عناثوث التي تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم، في أرض بنيامين. كان ينتسب إلى عائلة كهنوتية، فكان يحب الهيكل جدًا، وكان منذ صباه يحزن على انشغال الناس باللهو والفساد عوض العبادة لله، وكان حزينًا لأن عائلته تقدم ذبائح خارج أورشليم (الهيكل) الأمر الذي كانت الشريعة تمنعه.
في هدوء القرية كان إرميا يختلي بالله كصديق شخصي، يهبه خيرات كثيرة، بل ويهبه حبه. كثيرًا ما كان يصعد على سطح بيته ليرى البرية القاحلة القائمة على حافة قريته، وينظر من بعيد ليرى وحشًا مفترسًا.
وسط هذا الجو الممتزج بين آمان القرين ورعب الصحراء كان إرميا يطلب حماية الله لشعبه، وخلاص الكل من الفساد...
مرت سنوات وإذا به يسمع الله يقول له: "لقد أقمتك نبيًا للأمم".
حاول إرميا أن يتأكد من الصوت إذ كان يحسب نفسه كطفل صغير، وهو يقول: "لا يا رب، انظر إني ولد، لا أعرف أن أتكلم، وإن تكلمت فليس من يُصغي إلىَّ".
أجابه الله: "لا تخف يا إرميا، فإنني أكون معك، وأسير معك، وأعطيك كلمتي في فمك، وأرعاك بنفسي!"
شعر إرميا بقوة إلهية تمس شفتيه، وبفرح وفي ثقة داخلية قال: "لقد لمس الله فمي".
قال له الله: "ماذا ترى يا إرميا؟"
- يا رب إني أرى قضيب لوز، ندعوها شجرة حارسة، لأنها تُزهر قبل كل الأشجار، فنحسبها تُنذر وتُعلن عن حلول فصل الربيع.
- أنا أيضًا كالشجرة الحارسة يا إرميا، أنا أحرس كلمتي وأجعلها تُزهر وتُثمر في القلوب.
ترك إرميا قريته الصغيرة وذهب إلى أورشليم حيث سمعه يوشيا الملك يتحدث ضد الآلهة الباطلة وعبادة مولك.
استمر إرميا واقفًا في الميادين العامة يتحدث مع الشعب ويحذرهم بسبب عبادتهم الأوثان وقساوة قلوبهم وصُنعهم الشر. وبعد خمس سنوات بدأ ترميم الهيكل ووُجد سفر الشريعة كما أشرت قبلاً.
صدر الأمر بهدْم كل المذابح الوثنية وأيضًا هدْم كل مذبح خارج أورشليم، حتى لا تُقدَّم ذبيحة خارج الهيكل.
أعلن الله لإرميا ألاَّ يرجع إلى قريته عناثوث، إذ قال له:
"لقد حطم رجال الملك المذبح الذي في عناثوث. وقد عرفَتْ أسرتك أنك أنت السبب. إنهم ثائرون جدًا عليك ويطلبون قتلك بدلاً من أن يرجعوا إلىَّ فأرحمهم وأغفر لهم. لا تذهب إليهم، ولا تخف منهم، إني أكون معك".
أجاب إرميا: "نعم يا رب، أنا أعلم أنك معي حتى إنْ وقفتْ كل أسرتي ضدي!"
الإناء الفخاري المكسور
في عام 612 ق.م سقطت نينوى عاصمة أشور، الدولة العظيمة التي سادت العالم كله حوالي 300 عام، وظن اليهود أنهم لن يكونوا بعد في خطر مادامت أشور قد انهارت. أما إرميا النبي فحذّر الشعب أنهم سيُسبون بواسطة بابل بسبب خطاياهم، فاستهزأ الكل به، لأن بابل كانت في نظرهم دُويْلة صغيرة، وحسبوا كلمات إرميا تشاؤمية تحطم نفسية الشعب والجيش.
وفي سنة 609 ق.م أراد نخو فرعون مصر أن يحتل أرض الفرات... تصدَّى له في الطريق يوشيا الذي قُتل، وأقام فرعون يهوآحاز ابن يوشيا ملكًا. خلعه نخو بعد ثلاثة شهور ثم أقام أخاه يهوياقيم ملكًا عوضًا عنه.
بعد أربع سنوات (605 ق.م) تغلب نبوخذ نصر ملك بابل على نخو فرعون مصر، وتحوّل ولاء يهوياقيم لمصر إلى ولاء لبابل. لكن كان الشعب والقادة وأيضًا الملك في صراع داخلي، هل يساندون مصر لحمايتهم من بابل أم العكس.
طلب إرميا من الشعب الاستسلام في يدي بابل ليس خنوعًا، وإنما كعقوبة بسبب خطاياهم، علاجها ليس الالتجاء إلى فرعون بل إلى الله.
صرخ الشعب: "نريد أن نتحرر من نير بابل". أمسك إرميا النبي إناءً فخاريًا ضخمًا وثقيلاً، وألقى به أرضًا أمام الشعب فتحطم تمامًا. ثم قال لهم: "مَنْ يقدر أن يُصلحه؟ هكذا سينكسر يهوذا كالإناء المكسور، ولا يقدر فرعون أن يصلحه بل الله". كان الكهنة في الهيكل وكل القيادات ثائرين على إرميا، وحسبوه عميلاً لبابل، وخائنًا لوطنه (إرميا 19).
ضرب فشحور الكاهن إرميا النبي وجعله في المقطرة (مقيدًا بسلاسل في يديه ورجليه) كأنه مجرم. وكان كل من يمر يسخر به.
لم يتوقف إرميا عن التحذير بأن الكاهن فشحور وأهل بيته والشعب سيُقادون أسرى إلى بابل في مذلة. لم يكن ذلك رغبة في الانتقام من فشحور، وإنما نبوة لكي يرتدع الكل ويرجع إلى الله بالتوبة.
لم يكن إرميا يشتهي مذلة شعبه، إنما كانت النيران ملتهبة في قلبه لأجل ما سيحل بشعبه وأرضه وبيت الرب وبالأكثر بسبب هلاك الكل في يوم الرب العظيم.
كم كان إرميا حزينًا حين سمع الله يطلب أن يطوف الشعب في شوارع مدينة الله أورشليم ليفتشوا لعلهم يجدون إنسانًا واحدًا بارًا فيصفح عنهم (إرميا 5).
كان إرميا في مرارة يقول:
"أحشائي! أحشائي!
جدران قلبي توجعني.
يئن فيَّ قلبي.
لا أستطيع السكوت" إرميا 4: 19.
كان كنبي يرى ما سيحدث في المستقبل: سَبْي الشعب، فكان يقول:
"من العلاء أرسل (الله) نارًا إلى عظامي فَسَرَتْ فيها" مراثي إرميا 1: 13.
بقى إرميا في شجاعة ومرارة يحذر الشعب مما سيحل به، لكن لم يسمع له أحد، بل منعه الكهنة والقيادات الدينية من الدخول إلى بيت الرب والحديث مع الشعب، فحزن جدًا.
الكلمات التي لم تقدر النيران أن تحرقها!
جلس الملك يهوياقيم أمام موقد النار يستدفيء، وإذا بأحد رجاله يحمل درجًا.
سأل الملك: "ما هذا؟"
أجاب الرجل: "إنه درج، أخذته من باروخ كاتب إرميا النبي. لقد منعنا إرميا من الاقتراب إلى الهيكل، لكنه أرسل كاتبه يحمل هذا الدرج وقرأه أمام الشعب في يوم الصوم. ولئلا يحدث شغب تركناه، لكننا أخذنا منه الدرج".
سأل الملك: "وماذا في الدرج؟"
أجاب الرجل: "ماذا تتوقع من إرميا الذي يَهْوَى المشاكل، ويبغى تحطيم نفسية القيادات العسكرية والدينية والشعب كله! إنه يَدَّعي بأنه يتنبأ بسبْي يهوذا كله بواسطة بابل! لقد حوى الدرج كل ما قاله إرميا منذ أيام الملك يوشيا حتى اليوم".
في غضب شدَّ الملك الدرج من يدَّ الرجل، وأمسك بسكين ليمزقه ويُلقي به في النار، عندئذ صرخ بعض الحاضرين في نفس واحد: "لا تصنع أيها الملك هكذا، لئلا يحل بنا غضب الله". أما هو فضحك بسخرية وتهكم ومزق الدرج وألقى به في النار، ثم قال: "ايتوني بإرميا وباروخ حالاً!"
بحثوا عنهما فلم يجدوهما إذ أخفاهما بعض رجال الملك الأتقياء، حيث أملى إرميا النبي على باروخ من جديد ما هو مكتوب في الدرج الأول مع إضافات (إرميا 36: 27-32).
أعلن إرميا تأديب الله لشعبه، وقد تحقق كل ما قاله.
حاول يهوياقيم القيام بثورة ضد بابل، لكن أرسل ملك بابل جيشًا لقمع الثورة، ومات يهوياقيم بطريقة غامضة، وصار يهوياكين ابنه ملكًا لمدة ثلاثة شهور، ثم أخذه نبوخذ نصر ملك بابل أسيرًا، وأقام عوضًا عنه أخوه صدقيا.
هكذا إن كان يهوياقيم قد أحرق الدرج لكنه لم يستطع أن يمنع تحقيق كل ما ورد فيه. وها هي الكلمات باقية في الكتاب المقدس إلى اليوم.
النبي السجين
كان صدقيا في صراع بين رغبته في الظهور بالخضوع لسيده ملك بابل لئلا يكون مصيره كمصير يهوياكين، وبين إظهار روح الوطنية أمام الشعب بمضاداته لملك بابل المستعمر وطلب معونة فرعون المقاوم لبابل.
أرسل الملك سرًا إلى إرميا يطلب مشورته (إرميا 21)، قائلاً له: "إن جيش فرعون قادم لمساندتنا ضد نبوخذ نصر. إنها فرصة للخلاص من الاستعمار البابلي". أجابه إرميا: "لا، فإن جيش فرعون سيرجع إلى مصر، وسيهاجم البابليون أورشليم ويستولون عليها ويحرقونها. اسمع يا صدقيا لمشورتي قبل فوات الأوان، سلم المدينة وانقذنا، ولا تتكل على جيش فرعون". كما طلب منه التوبة عن شره. أما صدقيا فخاف أن يجاهر بما قاله له إرميا النبي.
إذ تحرك جيش مصر تجاه فلسطين، ففكَّ البابليون حصارهم لأورشليم لمحاربة المصريين. وهرب إرميا من أورشليم ليذهب إلى قريته (إرميا 32: 6) لكن حارس الباب أمسك به وحسبه خائنًا لوطنه، يهرب من أورشليم ليلتقي بالبابليين ويشجعهم على استلام البلد. ضُرِب إرميا، وأُلقِيَ في السجن أيامًا كثيرة (إرميا 37: 16)، وتُرِك جائعًا!
أرسل إليه صدقيا سرًا يسأله: "هل توجد كلمة من قبل الرب؟"
أجاب إرميا: "الله دائمًا مستعد أن يتكلم معنا، إنما أنت لا تريد أن تسمع له وتطيعه. هوذا يقول لك يا صدقيا إنك ستسقط في يد البابليين".
تطلَّع الذين كانوا مع الملك كل واحد نحو الآخر وهم مندهشون كيف تجاسر هذا السجين أن ينطق بهذه الكلمات أمام الملك... وإذ رأى إرميا نظراتهم، عاتب الملك بكل شجاعة: "ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟... أين هم أنبياؤك الكذبة الذين يقولون إنه لا يأتي ملك بابل عليكم؟... الآن اسمع أيها الملك، لا تردّني إلى بيت يوناثان الكاتب لئلا يقتلني" (إرميا 37).
ارتعب الملك أمام النبي السجين، وخشي لئلا يعاقبه الله، فأمر أن يوضع إرميا في حجرة أفضل في السجن وتُقدّم له خبزة كل يوم حتى ينفذ الخبر من المدينة.
سمع الرؤساء كلمات إرميا في السجن التي فيها يطالب الشعب كله بالخضوع لبابل فقالوا للملك: "ليُقْتل هذا الرجل لأنه يُضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب. إنه لا يتكلم لسلام الشعب بل لشره".
قال لهم الملك: "هو بين أيديكم، افعلوا به ما شئتم".
ألقوا إرميا في جب داخل السجن، فغاص في الوحل، وتُرِك فيه ليموت جوعًا.
لكن أحد عبيد الملك أثيوبي سمع عما حدث مع إرميا، فأسرع إلى الملك يقول: "إنها قسوة! إنه لشر عظيم أنْ يُترك هذا الرجل الشجاع في الجب يموت بلا ذنب، إنه رجل الله يتكلم بصراحة ولا يخاف الموت!"
أجاب الملك: "حسنًا، خذ معك ثلاثين رجلاً واسحبوه من الجب".
انطلق الأثيوبي ومعه الرجال إلى المخزن وأخذوا من هناك ثيابًا رثة ودلوها إلى إرميا إلى الجب بحبال. وضع إرميا الثياب تحت إبطيه تحت الحبال، وجذبوه بالحبال، وبقى في السجن حتى تحققت كلماته، وسقطت أورشليم في يد نبوخذ نصر في عام 587 ق.م.
جاءه صدقيا الملك للمرة الأخيرة وطلب منه المشورة، ولم يغير النبي حديثه، فسأله الملك أن يبقى هذا الأمر سرًا، لأنه كان يخاف من رؤساء قصره.
إرميا في مصر
حقًا كان الملك يحترمه جدًا، والرؤساء يخشونه، والرب أنقذه من الموت في الجب وأرسل له رجلاً أثيوبيًا غريب الجنس يشفع فيه وينقذه... لكن بقى أمر واحد يُلهب قلبه بالنيران، وهو شوقه نحو خلاص كل الشعب.
وبينما كان إرميا في السجن سقطت أورشليم في يد البابليين، وهرب صدقيا ورجال الحرب، وخرجوا ليلاً من المدينة في طريق حديقة الملك... وسعى الجيش البابلي وراءهم، ولحقوا بهم.
جاءوا بأبناء الملك وقتلوهم أمام عينيه، ثم فقأوا عيني الملك وقيدوه بسلاسل نحاس واقتادوه إلى بابل. أشعل البابليون النيران في قصر الملك وبيوت الأشراف، وتحولت المدينة إلى دخان كثيف، وحطموا أسوار المدينة. وخرج جيش بابل يحمل كل ما في خزائن أورشليم من ذهب وفضة وحجارة كريمة وعاج... كما اقتادوا كثيرين أسرى إلى بابل.
جدران قلبي توجعني
القمص تادرس يعقوب ملطي
وُجد السفر
إله قاسي!
حدثت في أورشليم أمور مرعبة، فقد صنع الشعب شرورًا كثيرة، ولجأوا إلى
الشعوذة والسحر. أما ما هو أشر فقد أقام الملك تمثالاً للإله مولك في وادي
ابن هنوم، خارج أسوار المدينة.كان ذراعا التمثال النحاسي مبسوطين لا بالحب للناس وإنما لتقديم ذبائح بشرية في قسوة. إذ كان الكهنة والكاهنات يوقدون نارًا تحتهما حتى يتوهجان جدًا، فتأتي الأم برضيعها وتلقي به على الذراعين. ولكي لا يسمع أحد صرخات الرضيع وهو يحترق، كان الكهنة قساة القلب يضربون على الطبول وينشدون الأغاني بأصوات مرتفعة.
لقد عرف الملك أن الله يحرم الذبائح البشرية، ومع هذا فقدم طفله ذبيحة للإله ملوخ.
ملك طيب القلب
صار
يوشيا ملكًا على يهوذا وهو في الثامنة من عمره، وقد اشتاق منذ صباه أن
يتخلص من كل التماثيل الوثنية، ويرد لأورشليم جمالها وقداستها. وإذ بلغ
الحادية والعشرين سمع إرميا النبي يصرخ في أورشليم ويقول:"هذه الآلهة الغريبة الباطلة صنعها الأمم، وهي لا تسمع ولا تتكلم ولا تتحرك. حطموها وتخلصوا منها، فإنه لا نفع لها، وتعجز عن أن تؤذيكم. ارجعوا إلى الله الحيّ وأصلحوا بيته المقدس الذي أفسدتموه".
سمع الملك كلمات هذا النبي الصغير القروي والخجول، فأحبه جدًا، وأحب كلماته ونصائحه. وأمر يوشيا الملك حلقيا رئيس الكهنة أن يهتم بإصلاح الهيكل.
بدأ العمل في جدية وانشغل المعماريون والبناءون والنجارون في إصلاح الهيكل وترميمه.
قال أحدهم وهو يرفع بيده درجًا (مخطوطة) قديمًا من وسط الأنقاض: "انظروا! ما هذا؟!" نفض الرجل التراب عن الدرج، وقدمه لحلقيا الذي قرأه، وأسرع نحو شافان كاتب الملك يقدم له الدرج، ويقول له: "قد وجدنا سفر الشريعة مخفيًا في بيت الرب". أخذ شافان الدرج وفتحه، وبدأ يقرأ فيه، عندئذ قال: "يجب علينا أن نقدمه للملك".
جاء شافان الكاتب إلى يوشيا الملك، وقال له: "لقد أعطاني حلقيا رئيس الكهنة هذا الدرج".
قال له الملك: "اقرأه بصوتٍ عالٍ".
بدأ شافان يقرأ بصوتٍ عالٍ للملك الشرائع المذكورة في الدرج، وقد جلس يوشيا صامتًا كمن قد سُحِرّ في مكانه، ينصت باهتمام شديد.
"اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا إله واحد؛
حبّ الرب بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك.
الله لا يحابي الوجوه،
يهتم بالأيتام، ويحب الغرباء الذين يأتون ليعيشوا في مدينتك.
وأنت يليق بك أن تحب الغرباء أيضًا، إذ كنت غريبًا في مصر.
لا تحابي أحدًا.
ولا تقبل رشوة.
ولتكن مقاييسك وأوزانك كاملة ودقيقة.
عندما تجمع حصادك تأكد أنك تترك بعض الحبوب في الحقل، وبعض الزيتون على الأغصان وعناقيد عنب على الكرمة حتى يأكل الفقير".
إذ سمع يوشيا ذلك بدأ يرتعب قليلاً قليلاً حتى قفز من فوق عرشه؛ وخلع تاجه، ومزق ثيابه الملوكية، وهو يقول:
"حتمًا الله غاضب علينا، إذ لا يوجد في يهوذا من ينفذ وصايا هذا السفر".
وقف يوشيا بجوار عمود، ووعد الله أن يسلك في طرقه، وأن يحفظ وصاياه المكتوبة في هذا السفر الذي وجدوه. وصرخ الشعب كله: "آمين".
كما أصدر الملك أوامره بهدم كل المذابح الوثنية فورًا، وسَحْق تمثال مولك. بهذا تحول وادي ابن هنوم إلى مقلب قمامة يُلقَى فيه كل قمامة أورشليم. كما أصدر أمره أن يُحتفل بعيد الفصح العظيم في أورشليم الذي لم يحتفلوا به منذ سنوات طويلة، كما قرأ الملك السفر.
فرح الشعب جدًا، وبدأوا يطيعون الأوامر، لكن سرعان ما رجعوا إلى طرقهم الشريرة القديمة. وكان إرميا النبي يلاحظ هذا كله. فكان في البداية متهللاً لتوبة الشعب ورجوعهم إلى الله، لكنه عاد فحزن جدًا لما وجدهم لا يحبون الله ولا يطيعون وصاياه
(راجع أخبار الأيام الثاني 34، 35).
النبي الصغير
نشأ إرميا في قرية عناثوث التي تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم، في أرض بنيامين. كان ينتسب إلى عائلة كهنوتية، فكان يحب الهيكل جدًا، وكان منذ صباه يحزن على انشغال الناس باللهو والفساد عوض العبادة لله، وكان حزينًا لأن عائلته تقدم ذبائح خارج أورشليم (الهيكل) الأمر الذي كانت الشريعة تمنعه.
في هدوء القرية كان إرميا يختلي بالله كصديق شخصي، يهبه خيرات كثيرة، بل ويهبه حبه. كثيرًا ما كان يصعد على سطح بيته ليرى البرية القاحلة القائمة على حافة قريته، وينظر من بعيد ليرى وحشًا مفترسًا.
وسط هذا الجو الممتزج بين آمان القرين ورعب الصحراء كان إرميا يطلب حماية الله لشعبه، وخلاص الكل من الفساد...
مرت سنوات وإذا به يسمع الله يقول له: "لقد أقمتك نبيًا للأمم".
حاول إرميا أن يتأكد من الصوت إذ كان يحسب نفسه كطفل صغير، وهو يقول: "لا يا رب، انظر إني ولد، لا أعرف أن أتكلم، وإن تكلمت فليس من يُصغي إلىَّ".
أجابه الله: "لا تخف يا إرميا، فإنني أكون معك، وأسير معك، وأعطيك كلمتي في فمك، وأرعاك بنفسي!"
شعر إرميا بقوة إلهية تمس شفتيه، وبفرح وفي ثقة داخلية قال: "لقد لمس الله فمي".
قال له الله: "ماذا ترى يا إرميا؟"
- يا رب إني أرى قضيب لوز، ندعوها شجرة حارسة، لأنها تُزهر قبل كل الأشجار، فنحسبها تُنذر وتُعلن عن حلول فصل الربيع.
- أنا أيضًا كالشجرة الحارسة يا إرميا، أنا أحرس كلمتي وأجعلها تُزهر وتُثمر في القلوب.
ترك إرميا قريته الصغيرة وذهب إلى أورشليم حيث سمعه يوشيا الملك يتحدث ضد الآلهة الباطلة وعبادة مولك.
استمر إرميا واقفًا في الميادين العامة يتحدث مع الشعب ويحذرهم بسبب عبادتهم الأوثان وقساوة قلوبهم وصُنعهم الشر. وبعد خمس سنوات بدأ ترميم الهيكل ووُجد سفر الشريعة كما أشرت قبلاً.
صدر الأمر بهدْم كل المذابح الوثنية وأيضًا هدْم كل مذبح خارج أورشليم، حتى لا تُقدَّم ذبيحة خارج الهيكل.
أعلن الله لإرميا ألاَّ يرجع إلى قريته عناثوث، إذ قال له:
"لقد حطم رجال الملك المذبح الذي في عناثوث. وقد عرفَتْ أسرتك أنك أنت السبب. إنهم ثائرون جدًا عليك ويطلبون قتلك بدلاً من أن يرجعوا إلىَّ فأرحمهم وأغفر لهم. لا تذهب إليهم، ولا تخف منهم، إني أكون معك".
أجاب إرميا: "نعم يا رب، أنا أعلم أنك معي حتى إنْ وقفتْ كل أسرتي ضدي!"
الإناء الفخاري المكسور
في عام 612 ق.م سقطت نينوى عاصمة أشور، الدولة العظيمة التي سادت العالم كله حوالي 300 عام، وظن اليهود أنهم لن يكونوا بعد في خطر مادامت أشور قد انهارت. أما إرميا النبي فحذّر الشعب أنهم سيُسبون بواسطة بابل بسبب خطاياهم، فاستهزأ الكل به، لأن بابل كانت في نظرهم دُويْلة صغيرة، وحسبوا كلمات إرميا تشاؤمية تحطم نفسية الشعب والجيش.
وفي سنة 609 ق.م أراد نخو فرعون مصر أن يحتل أرض الفرات... تصدَّى له في الطريق يوشيا الذي قُتل، وأقام فرعون يهوآحاز ابن يوشيا ملكًا. خلعه نخو بعد ثلاثة شهور ثم أقام أخاه يهوياقيم ملكًا عوضًا عنه.
بعد أربع سنوات (605 ق.م) تغلب نبوخذ نصر ملك بابل على نخو فرعون مصر، وتحوّل ولاء يهوياقيم لمصر إلى ولاء لبابل. لكن كان الشعب والقادة وأيضًا الملك في صراع داخلي، هل يساندون مصر لحمايتهم من بابل أم العكس.
طلب إرميا من الشعب الاستسلام في يدي بابل ليس خنوعًا، وإنما كعقوبة بسبب خطاياهم، علاجها ليس الالتجاء إلى فرعون بل إلى الله.
صرخ الشعب: "نريد أن نتحرر من نير بابل". أمسك إرميا النبي إناءً فخاريًا ضخمًا وثقيلاً، وألقى به أرضًا أمام الشعب فتحطم تمامًا. ثم قال لهم: "مَنْ يقدر أن يُصلحه؟ هكذا سينكسر يهوذا كالإناء المكسور، ولا يقدر فرعون أن يصلحه بل الله". كان الكهنة في الهيكل وكل القيادات ثائرين على إرميا، وحسبوه عميلاً لبابل، وخائنًا لوطنه (إرميا 19).
ضرب فشحور الكاهن إرميا النبي وجعله في المقطرة (مقيدًا بسلاسل في يديه ورجليه) كأنه مجرم. وكان كل من يمر يسخر به.
لم يتوقف إرميا عن التحذير بأن الكاهن فشحور وأهل بيته والشعب سيُقادون أسرى إلى بابل في مذلة. لم يكن ذلك رغبة في الانتقام من فشحور، وإنما نبوة لكي يرتدع الكل ويرجع إلى الله بالتوبة.
لم يكن إرميا يشتهي مذلة شعبه، إنما كانت النيران ملتهبة في قلبه لأجل ما سيحل بشعبه وأرضه وبيت الرب وبالأكثر بسبب هلاك الكل في يوم الرب العظيم.
كم كان إرميا حزينًا حين سمع الله يطلب أن يطوف الشعب في شوارع مدينة الله أورشليم ليفتشوا لعلهم يجدون إنسانًا واحدًا بارًا فيصفح عنهم (إرميا 5).
كان إرميا في مرارة يقول:
"أحشائي! أحشائي!
جدران قلبي توجعني.
يئن فيَّ قلبي.
لا أستطيع السكوت" إرميا 4: 19.
كان كنبي يرى ما سيحدث في المستقبل: سَبْي الشعب، فكان يقول:
"من العلاء أرسل (الله) نارًا إلى عظامي فَسَرَتْ فيها" مراثي إرميا 1: 13.
بقى إرميا في شجاعة ومرارة يحذر الشعب مما سيحل به، لكن لم يسمع له أحد، بل منعه الكهنة والقيادات الدينية من الدخول إلى بيت الرب والحديث مع الشعب، فحزن جدًا.
الكلمات التي لم تقدر النيران أن تحرقها!
جلس الملك يهوياقيم أمام موقد النار يستدفيء، وإذا بأحد رجاله يحمل درجًا.
سأل الملك: "ما هذا؟"
أجاب الرجل: "إنه درج، أخذته من باروخ كاتب إرميا النبي. لقد منعنا إرميا من الاقتراب إلى الهيكل، لكنه أرسل كاتبه يحمل هذا الدرج وقرأه أمام الشعب في يوم الصوم. ولئلا يحدث شغب تركناه، لكننا أخذنا منه الدرج".
سأل الملك: "وماذا في الدرج؟"
أجاب الرجل: "ماذا تتوقع من إرميا الذي يَهْوَى المشاكل، ويبغى تحطيم نفسية القيادات العسكرية والدينية والشعب كله! إنه يَدَّعي بأنه يتنبأ بسبْي يهوذا كله بواسطة بابل! لقد حوى الدرج كل ما قاله إرميا منذ أيام الملك يوشيا حتى اليوم".
في غضب شدَّ الملك الدرج من يدَّ الرجل، وأمسك بسكين ليمزقه ويُلقي به في النار، عندئذ صرخ بعض الحاضرين في نفس واحد: "لا تصنع أيها الملك هكذا، لئلا يحل بنا غضب الله". أما هو فضحك بسخرية وتهكم ومزق الدرج وألقى به في النار، ثم قال: "ايتوني بإرميا وباروخ حالاً!"
بحثوا عنهما فلم يجدوهما إذ أخفاهما بعض رجال الملك الأتقياء، حيث أملى إرميا النبي على باروخ من جديد ما هو مكتوب في الدرج الأول مع إضافات (إرميا 36: 27-32).
أعلن إرميا تأديب الله لشعبه، وقد تحقق كل ما قاله.
حاول يهوياقيم القيام بثورة ضد بابل، لكن أرسل ملك بابل جيشًا لقمع الثورة، ومات يهوياقيم بطريقة غامضة، وصار يهوياكين ابنه ملكًا لمدة ثلاثة شهور، ثم أخذه نبوخذ نصر ملك بابل أسيرًا، وأقام عوضًا عنه أخوه صدقيا.
هكذا إن كان يهوياقيم قد أحرق الدرج لكنه لم يستطع أن يمنع تحقيق كل ما ورد فيه. وها هي الكلمات باقية في الكتاب المقدس إلى اليوم.
النبي السجين
كان صدقيا في صراع بين رغبته في الظهور بالخضوع لسيده ملك بابل لئلا يكون مصيره كمصير يهوياكين، وبين إظهار روح الوطنية أمام الشعب بمضاداته لملك بابل المستعمر وطلب معونة فرعون المقاوم لبابل.
أرسل الملك سرًا إلى إرميا يطلب مشورته (إرميا 21)، قائلاً له: "إن جيش فرعون قادم لمساندتنا ضد نبوخذ نصر. إنها فرصة للخلاص من الاستعمار البابلي". أجابه إرميا: "لا، فإن جيش فرعون سيرجع إلى مصر، وسيهاجم البابليون أورشليم ويستولون عليها ويحرقونها. اسمع يا صدقيا لمشورتي قبل فوات الأوان، سلم المدينة وانقذنا، ولا تتكل على جيش فرعون". كما طلب منه التوبة عن شره. أما صدقيا فخاف أن يجاهر بما قاله له إرميا النبي.
إذ تحرك جيش مصر تجاه فلسطين، ففكَّ البابليون حصارهم لأورشليم لمحاربة المصريين. وهرب إرميا من أورشليم ليذهب إلى قريته (إرميا 32: 6) لكن حارس الباب أمسك به وحسبه خائنًا لوطنه، يهرب من أورشليم ليلتقي بالبابليين ويشجعهم على استلام البلد. ضُرِب إرميا، وأُلقِيَ في السجن أيامًا كثيرة (إرميا 37: 16)، وتُرِك جائعًا!
أرسل إليه صدقيا سرًا يسأله: "هل توجد كلمة من قبل الرب؟"
أجاب إرميا: "الله دائمًا مستعد أن يتكلم معنا، إنما أنت لا تريد أن تسمع له وتطيعه. هوذا يقول لك يا صدقيا إنك ستسقط في يد البابليين".
تطلَّع الذين كانوا مع الملك كل واحد نحو الآخر وهم مندهشون كيف تجاسر هذا السجين أن ينطق بهذه الكلمات أمام الملك... وإذ رأى إرميا نظراتهم، عاتب الملك بكل شجاعة: "ما هي خطيتي إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب حتى جعلتموني في بيت السجن؟... أين هم أنبياؤك الكذبة الذين يقولون إنه لا يأتي ملك بابل عليكم؟... الآن اسمع أيها الملك، لا تردّني إلى بيت يوناثان الكاتب لئلا يقتلني" (إرميا 37).
ارتعب الملك أمام النبي السجين، وخشي لئلا يعاقبه الله، فأمر أن يوضع إرميا في حجرة أفضل في السجن وتُقدّم له خبزة كل يوم حتى ينفذ الخبر من المدينة.
سمع الرؤساء كلمات إرميا في السجن التي فيها يطالب الشعب كله بالخضوع لبابل فقالوا للملك: "ليُقْتل هذا الرجل لأنه يُضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب. إنه لا يتكلم لسلام الشعب بل لشره".
قال لهم الملك: "هو بين أيديكم، افعلوا به ما شئتم".
ألقوا إرميا في جب داخل السجن، فغاص في الوحل، وتُرِك فيه ليموت جوعًا.
لكن أحد عبيد الملك أثيوبي سمع عما حدث مع إرميا، فأسرع إلى الملك يقول: "إنها قسوة! إنه لشر عظيم أنْ يُترك هذا الرجل الشجاع في الجب يموت بلا ذنب، إنه رجل الله يتكلم بصراحة ولا يخاف الموت!"
أجاب الملك: "حسنًا، خذ معك ثلاثين رجلاً واسحبوه من الجب".
انطلق الأثيوبي ومعه الرجال إلى المخزن وأخذوا من هناك ثيابًا رثة ودلوها إلى إرميا إلى الجب بحبال. وضع إرميا الثياب تحت إبطيه تحت الحبال، وجذبوه بالحبال، وبقى في السجن حتى تحققت كلماته، وسقطت أورشليم في يد نبوخذ نصر في عام 587 ق.م.
جاءه صدقيا الملك للمرة الأخيرة وطلب منه المشورة، ولم يغير النبي حديثه، فسأله الملك أن يبقى هذا الأمر سرًا، لأنه كان يخاف من رؤساء قصره.
إرميا في مصر
انهيار أورشليم
كان
إرميا حزينًا في السجن إذ رأى مقدمًا ما سيحدث ببلده وشعبه، بينما الكل
يعيشون في طرقهم الشريرة؛ ليس من يسمع لتحذيراته، ولا من يطلب التوبة.حقًا كان الملك يحترمه جدًا، والرؤساء يخشونه، والرب أنقذه من الموت في الجب وأرسل له رجلاً أثيوبيًا غريب الجنس يشفع فيه وينقذه... لكن بقى أمر واحد يُلهب قلبه بالنيران، وهو شوقه نحو خلاص كل الشعب.
وبينما كان إرميا في السجن سقطت أورشليم في يد البابليين، وهرب صدقيا ورجال الحرب، وخرجوا ليلاً من المدينة في طريق حديقة الملك... وسعى الجيش البابلي وراءهم، ولحقوا بهم.
جاءوا بأبناء الملك وقتلوهم أمام عينيه، ثم فقأوا عيني الملك وقيدوه بسلاسل نحاس واقتادوه إلى بابل. أشعل البابليون النيران في قصر الملك وبيوت الأشراف، وتحولت المدينة إلى دخان كثيف، وحطموا أسوار المدينة. وخرج جيش بابل يحمل كل ما في خزائن أورشليم من ذهب وفضة وحجارة كريمة وعاج... كما اقتادوا كثيرين أسرى إلى بابل.
إرميا في يهوذا
سمع
ملك بابل عن إرميا ونبواته وما عاناه، فظن أنه يفعل ذلك لأجله، ولذلك أصدر
أوامره بحسن معاملته. أُعطي له حق الخيار بين الذهاب إلى بابل مكرمًا أو
البقاء في أرضه؛ وقدم له رئيس الشرطة طعامًا وهدية ثم أطلقه. لكن إرميا
المتألم فضل البقاء وسط الشعب المسكين، ليشاركهم آلامهم، هؤلاء الذين أحبهم
بكل قلبه بالرغم من مقاومتهم المستمرة له.
في مصر
قُتِل
جدليا الذي أقامه البابليون واليًا، وفكر الشعب في الهروب إلى مصر. حاول
إرميا أن يُثنيهم عن عزمهم لكنهم أصروا على رأيهم بل وحملوه قسرًا هو
وكاتبه الصديق الحميم باروخ... وهناك نطق بنبواته الختامية في مصر (إرميا
43: 8-44: 30). ولم يحتمل الشعب توبيخاته لهم وصراحته معهم، وعوض أن يقدموا
توبة لله فيرحمهم رجموا نبيه إرميا بالحجارة ليخلصوا منه!
0 التعليقات:
إرسال تعليق
سلام ونعمه