الإنسان.. كائن صغير لكنّه عَالَمٌ كبير - القديس باسيليوس



مقدّمة
يقول باسيليوس في عظته "أصل الإنسان": "صحيح أنك (أيها الإنسان) كائنٌ صغير لكنّك عالَمٌ كبير (1/2).. فيكشف بهذه الجملة الصغيرة عن المفهوم الأصيل للأنثربولوجيّة المسيحيّة، التي تتلخّص بمفهوم فرادة الإنسان وقيمته الكبرى في نظر الله. فهو ليس تطوّر في الخليقة، بل الخليقة إن وجدت فمن أجله!..
الإنسان هو غاية الله في الخلق
لا يدرس باسيليوس العالم باستقلال عن الإنسان وغاية الله في خلقه، وهكذا ينجح في إقامة علاقة بين علم الكون (الكسمولوجيا) وعلم الإنسان (الأنثربولوجية). فعلم الكون بكونه كشفاً فهو يهدف إلى كمال الإنسان، فالعالم المخلوق ليس له قيمة بحدِّ ذاته إنما يأخذ قيمته من الإنسان الموجود فيه. العالم (الكوسموس) مكان لكمال الإنسان.. وهو يأخذ بُعداً "غائيّاً" لأن القوى الإلهية تنكشف فيه وتفعل. وهو أيضًا مدرسة لمعرفة الله، لكن "المعرفة" (غنوسيس) التي يتلقاها من الإعلان الطبيعي محدودة، لأن أعمال الله لم تخرج من الجوهر الإلهي.
"نؤمن بالله.. ونؤمن بأنه خلق السماء والأرض. فلنُمجّد حكمة الله الخالق وعظمة الخليقة؛ إن جمال الخلائق تكشف لنا كم هو جميل الذي أوجدها؛ كما أن عظمة الأشياء المخلوقة تبيّن لنا طبيعة خالقها الغير المتناهية" (عظة على أيام الخليقة 1/2)..
فالطبيعة لا تكشف عن هذا الجوهر كما أن البيت لا يكشف عن جوهر البناء. والإنسان عندما ينظر إلى الخليقة بنور الكشف الإلهي يمجد الصانع الحكيم، لأن جمال المخلوقات يذكّره بالجمال الفائق. إن العالم بعد السقوط يئنّ ويتمخّض مع الإنسان الذي افتقر من النعمة، لكن العالم هو المحل الأمثل لكي يدربه ويربيه. كل ما في الطبيعة يتطلع بشوق إلى الرجوع إلى واهب الحياة. فمعنى العالم لا يوجد في بدئه لكن في غايته. الغاية تعطي قيمة للحاضر ومعنى للماضي. فالتاريخ يسير في الزمن لأن جسد المسيح لم يكتمل بعد وملء الجسد يفترض اكتمال التاريخ كله. لذلك فنهاية العالم والزمان شيء طبيعي ولكنه مجهول. كل ما هو مركّب في طبيعته لا يمكن أن يكون أزلياً لأنه سينحلّ. فهذا العالم مائت لأن تكوين المنظورات مركّب وكل ما هو مركّب ينحلّ لكن حيث لا يوجد فناء فهناك الثبات أي ملكوت الله.
"من خلال هذه الحقائق الواضحة تكتشف (أيّها الإنسان) نفسك، وبالوقت نفسه تكتشف الله.. فتعبده، وتعتبره السيّد المطلق للحياة والمصير، وتعترف بأنه الأب الحنون المحسن" (6/1).

الإنسان في صيرورة إنسانيّته:
الإنسانيّة هي صفة نامية، تتطوّر وتنضج، وتنشدّ لتبلغ هدفها بالمماثلة مع الله خالقها: "فنحن نحوز على صورة الله بقوّة الخلق، ونحوز على مثال الله بقوّة الإرادة" (1/17)…
هذا الانشداد يكشف عن عظمة الإنسان ويدعوه في آن إلى التواضع والمصالحة مع حدوده: "لا بدّ لك أيها الإنسان أن تقتنع من هذه الحقيقة، بأنك في هذه الحياة مسافر يبغي عالم الأبد، بأن كل شيء ستتركه وراءك. إنك أثناء سفرك في هذه الحياة، تشاهد أشجاراً وأغراساً، جداول وأنهاراً،..، أشواكاً ونتوءات. وكلّها تستوقفك قليلاً، ثم تتركها وتستأنف لتتابع مسيرة سفرك. هكذا الحياة، فكلّ شيء فيها يمضي: السعادة والشقاء، فالسعادة لساعات قليلة والعذاب لن يدوم طويلاً" (عظة5/4).. بهذا تقوم عظمة الإنسان وفخره وقيمته: أن يعرف ما هو عظيم حقّاً أي الله، ويجعله هدفاً له، وأن يطلب مجد الله فقط..
يسوع المسيح هو الصورة النموذجيّة لإنسانيّتنا
من أراد، برأي باسيليوس، أن ينال المجد فليطلبه في المسيح يسوع. لأن مجدنا الكامل هو في الله.. أمام هذه الحقيقة يزول كلّ داع إلى الكبرياء.. لأن فخرك ورجاءك هما في أن تُضحّي بأنانيتك، وتطلب الحياة الجديدة مع المسيح الذي قبلنا منه سلفاً المماثلة ببعض الصفات، إذ أننا نحيا في نعمة الله وصداقته" (عظة 313).
لا تدّعي المسيحيّة احتكار الأنموذج الإنسانيّ وإن شاهدت في المسيح الأنموذج الأمثل للإنسان، لذلك تدعو إلى استثمار كل موهبة للوصول إلى غاية الملء الإنساني، يقول باسيليوس: "لا تحتقر كُتب الحكماء والفقهاء، فهي مصادر نور تضيء الطريق أمامك لفهم حقائق الكتاب المقدّس. لذلك أنصحك بمطالعة كتب الشعراء والمؤرّخين والخطباء والفلاسفة، لأنك تستطيع بواسطتها تهذيب قلبك وتقويم حياتك. وهي تقوم مثل مدخل لفهم تعليم الله في الكتاب المقدّس. وهكذا إذا كان هناك توافق وتكامل بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الإلهيّة ازددت أنت فهماً لتعليم الوحي المقدّس" (عظة 12 عن العلوم الإنسانيّة)…
الإنسانيّة لا تتحقّق إلا بالمشاركة:
إن الإنسان كائن غرس الله فيه الصفة الاجتماعية عند الخلق عندما قال: "ليس حسن أن يكون الإنسان وحده على الأرض". وأعطاه الكلمة لكي يكشف عن إرادة قلبه وينقل للآخرين خفايا ذاته، وأعطاه المواهب الروحية لكي يتكامل البشر. وأبناء المجتمع يستطيعون أن يكونوا نفساً واحدة إذا ما اقتدوا بحياة الملائكة والقديسين. لكن الحياة الحاضرة هي مواجهة مع المشاكل الروحية والاجتماعية.
المُلكية في المسيحية ليست جماعية لكن استخدامها هو جماعي.
الفرد هو وكيل الخيرات الأرضية ومدبرها وليس مالكاً لها. والمدبر الأمين يحمل المسؤولية مقتدياُ بحكمةِ المدبّر الأكبر.
من لا يُلبس العريان ولا يُطعم الجائع ليس سوى مختلس يعري الثوب عن مرتديه.
المحبة اللاأنانية التي تجاهد من أجل الآخر، وتحزن على ضرره، وتفرح لنجاحه، هي مبدأ جديد أدخله يسوع إلى العالم. من يحب يخدم أحباء الله. في المحبة قضاء على التصرف المشين ضد القريب.
يمنح باسيليوس بعداً مقدّساً للحاجة فلا يرى فيها وجهاً ضعيفاً للإنسان "لأن البارئ رتّب أن يحتاج بعضنا إلى بعض. وفضلاً عن ذلك فإن محبّة المسيح لا تدع كلاًّ منّا يطلب ما هو له…
من ينال موهبة من المواهب لا ينالها لأجل نفسه بل بالحريّ لأجل الآخرين، بحيث أنّ القوّة الممنوحة لواحد بالروح القدس تنتقل ضرورة في حياة المشاركة إلى الجميع معاً.. (إذّاك) فإنه لا يتمتّع بموهبته الخصوصيّة فقط بل يُضاعفها بإشراك الآخرين فيها، ويجني ثمراً من مواهبهم كما يجتني من موهبته….
إن الرب لفرط محبّته للبشر لم يكتفِ أن علّمنا بالكلام فقط بل أعطانا القدوة البيّنة والفعّالة في التواضع والمحبّة إذ ائتزر هو نفسه بمنديل وغسل أرجل تلاميذه".. (القوانين المطوّلة، السؤال السابع).

هذه المحبة اللاأنانية تتبرعم أيضاً في العائلة المسيحية وتأخذ ملء أبعادها في محبة الرجل وطاعة المرأة اللتين تؤلفان واقعاً واحداً الرجل بمحبته يطيع المرأة والمرأة بمحبتها تطيع الرجل.
العمل ليس عبئاً على الإنسان بل مجداً له
"يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتّخذ العبادة حجّة للبطالة والهرب من المسؤوليّة. بل علينا أن نجعلها موضوعاً للجهاد، والأتعاب الجمّة، والصبر على المضايق… مثل هذا المنهج ينفع لا لتطويع الجسد فقط، بل لممارسة محبّة القريب أيضاً: لكي يُسعف الله الأخوة المحتاجين، ويقدّم لهم الكفاف على أيدينا… وهكذا تستحق أن تسمع قوله عزّ وجلّ: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني.." (مت25/34)… فكما أن القوت اليوميّ ضروريّ لكلّ إنسان، كذلك ضروريّ له الكدّ بحسب طاقته. إن سليمان لم يكتب عبثاً في مديح المرأة النشيطة: "إنها لم تأكل خبز الكسل" (أمثال 31/27)… إن الذي خوّلنا القدرة على العمل يطلب منّا أعمالاً تناسب قدرتنا هذه" (القوانين المطوّلة، سؤال 37)… "لا عُذر للمتكاسل الذي يعيش في البطالة بينما هو قادر على العمل" (عظات على أيام الخليقة – 7).
كما يدعو باسيليوس إلى فضيلة "الإتقان": "على أن كلّ أحد يلتزم أن ينتبه لعمله الخصوصي ويهتمّ له برغبة ويتمّمه من دون ملامة، بغيرة ونشاط وعناية وسهر.. كما أن عليه أن يعمله على مرأى من الله.. خيرٌ لنا أن نباشر عملاً واحداً بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمال كثيرة من دون إتقان" (القوانين المطوّلة، سؤال 41).. "فالعمل إذن انطلاقاً من هذا المفهوم يُنظّم بأحسن طريقة العلاقات المجتمعيّة، ويُضفي عليها جوّاً من التعاضد والانسجام" (القوانين المختصرة، 207).

خاتمة
نختم بقول لقديسنا يؤكد فيه أن أهم قيمة أرادها الله للإنسان، هي ذاته: "انتبه لذاتك.. فهي الكنز الثمين والخير الأعظم، وهي تستحق أن توليها أشدّ الاهتمام. فاحرص عليها أكثر من حرصك على الأمور التي تحيط بك، والتي تخصّك. فالفرق عظيم بين ما أنت عليه، وبين ما يحيط بك، وما هو لك.. لا تنس أنك خُلقت على صورة الله ومثاله… اهتمّ بذاتك فوق كل شيء .. زيّنها بالفضائل، نقها من الخطيئة.." (عظة 3/3).





0 التعليقات:

إرسال تعليق

سلام ونعمه

يتم التشغيل بواسطة Blogger.