قصة طفلان في مذود

طفلان في المذود



كان الرجل غنيا غنىً لا يمكن تصوره ، انه من أصحاب الملايين . كل ما يريده ويرغب به يستطيع أن يمتلكه في لحظات . بيته قصرا كل ما فيه يخلب الألباب ، أحاطه بأسلاك وأسوار عالية ، يقف محيطين بها رجال مسلحون موزعين على نقاط حراسة ، تعزل كل ما موجود داخل بيته الآمن ، في رأيه، عن خارجه ، وعن كل ما موجود في هذا العالم من أفكار وشرور كما يقول مراراً أمام أصدقائه .

كل ذلك من أجل ابنه الذي يخاف عليه من نسمة هواء يمكن أن تلمسه وتجرحه . انه (الأغلى) هكذا سمّاه لأنه أغلى ما موجود في حياته ، وأغلى من ذهب الدنيا بالنسبة اليه . وكبر الأغلى ليبلغ من العمر اليوم 10 سنوات .

عمل والده على تربية الأغلى تربية خاصة عازلا إياه عن بقية الناس العاديين ، لئلا يتأثر بهم ويطمعون فيه وبكل ما يملك . وقد وصل به الأمر الى أن يفتح له مدرسة خاصة به وحده داخل بيته ، ليتعلم فيها حتى لا يضطر الى الانتماء الى مدارس الآخرين التي لا تليق بمركزه وما يملك ، ويمكن من خلال تلك المدارس غير اللائقة له أن يندمج بأولاد ناس هم ليسوا من طبقته ، حيث يمكن أن يتعلم منهم اموراً لا يرغب والده في أن يتعلمها ابنه .

وكان الولد عكس أبيه ، فهو يتوق للقفز خارج أسوار قصره ، مغادراً القيود التي تحيط به في كل مكان ، وبما انه غير قادر على أن يفعلها بجسده ، فقد تمكن من أن يقوم بها بروحه ، من خلال إرسال نظره الى أرجاء العالم المحيط به من أكثر المناطق ارتفاعا في قصره ، حيث تعود أن يجلس في شرفة غرفته المرتفعة ، يراقب كل ما يجري أمامه بعيداً عنه ، ويتتبع حركته ، فكان يراقب بابتهاج حركة الغيوم قاطعة السماء من أقصاها الى أقصاها ، ويطارد بخياله أسراب الطيور الراسمة بطيران أجنحتها فوق لوحة الهواء المفروشة فوق سطوح البنايات ، الممتدة أمام ناظريه من بعيد .

وفي يوم من الأيام التي تسبق احتفالات أعياد الميلاد أثناء مراقبته ، كما تعوّد دائما ، للمشهد المترامي الأطراف الممتد أمام ناظريه ، لمحه من بعيد ، شيئا جديدا لم ينتبه الى وجوده قبلا ، انه صليب الكنيسة البعيدة جدا عن بيته ، رآه وقد تحلّى بأبهى حلّة من ألوان الضوء استعدادا لاحتفالات ليلة الميلاد .
سأل الطفل امه عن تلك الأضواء التي تحيط بذلك الشيء الذي لم يعرفه قبلا ، فحكت له امه حكاية ميلاد الطفل يسوع ، ولماذا العالم كله يفرح ةيبتهج سعادة وسرورا بمولد هذا الطفل العجيب الذي يُفَرِّح الأطفال بقدومه الى عالمنا ، وعندما تأتي ليلة تجسد يسوع في عالمنا طفلا صغيرا يزورون جميعهم مغارة ميلاد الطفل يسوع الموضوعة في كنيسة البلدة . وعندما أنهت الام حكايتها طلب منها الطفل الأغلى أن تصطحبه كبقية أطفال الدنيا لزيارة مغارة عيد الميلاد في الكنيسة التي تحمل الصليب المبهج في انارته ، الذي رآه من شرفة قصره من بعيد.

وهنا رفض الأب ذلك الطلب رفضا قاطعا خوفا على ولده من أي شر يمكن أن يصيبه في زيارته تلك . وأخذ الوالد يصيح : قولوا لي ، ما أهمية الكنيسة بالنسبة لطفل عمره 10 سنوات !! ولكن ، في هذه المرة ، أصرَّ الطفل على طلبه بعناد شديد لم يتعوده والده منه . وفي نهاية الأمر رضخ الوالد لطلب ولده .

وقامت والدته باحضاره الى الكنيسة في ليلة الميلاد ، وعند وصوله الى باب الكنيسة ، توقف قبالتها ممسكاً بيد أُمه رافعا رأسه عاليا ، حتى كادت رقبته أن تتأذى ، مستطلعا شكل الصليب المثبت في أعلى قمة من قمم الكنيسة ، والواقف هو أسفله بالضبط ، وقد بدا في هذه اللحظة في عيون الأغلى كبيرا جدا جدا وجميلا جدا جدا ، ومختلفا كثيرا عن شكل الصليب الذي تعوّد أن يراه من بعيد من شرفة منزله . تحرك الأغلى بعد قليل مع امه التي أدخلته الى الكنيسة ، فأسرع مهرولا ، كما فعل جميع الأطفال الداخلين الى الكنيسة في تلك اللحظة معه ، الى حيث رُتبت مغارة ميلاد الطفل يسوع التي كثيرا ما حلم برؤيتها، ورؤية المذود الذي يرقد فيه ، وامه العذراء ويوسف واقفين بجانبه . واستمتع برؤية الحيوانات تقف حول المذود . فهذا الحمار ، وذاك الخروف ، أما البقرة فقد رآها واقفة في زاوية تنظر بدورها الى مذودها الذي رقد داخله الطفل يسوع . وقد فُرشت أرضية المغارة بالتبن والقش الأصفر ، فبدت للأطفال كأنها مغارة حقيقية. وعلقت أشكالا جميلة للملائكة فوقها ، مما بعث البهجة في نفوس الأطفال . وقد أعدت تلك المغارة وما تحويه من عناصر وشخصيات بحجوم كبيرة جدا لتسع جميع الأطفال القادمين الى الكنيسة في ليلة الميلاد ، والمتشوقين لزيارة المغارة ، والدخول فيها لرؤية الطفل يسوع وهو راقدا في مذوده .

اندهش الأغلى مما رآه ، انه قد سمع بما موجود في مغارة عيد الميلاد سابقا ، فقد وصفتها له والدته عندما حكت له حكاية ميلاد الطفل يسوع ، ولكنه يراها في هذه الليلة مجسدة أمامه لأول مرة في حياته ، ولم يكن يتصور انها يمكن أن تكون بكل هذا الجمال والروعة .
انتهى الاحتفال وخرج الأغلى من الكنيسة بصحبة والدته ، التي أركبته السيارة ، ولاحظت انه يكاد يطير من السعادة .

وفي طريق عودته الى البيت ، وفجأة سدت الطريق عليهم سيارة غريبة سوداء لا تحمل أرقاما . أخرج أحدهم من خلال شباكها الخلفي ، الذي أُنزل في لحظات قطعة سلاح وفجّر بواسطته عجلتين جانبيتين من السيارة التي يركبها الأغلى ، فكادت تنقلب لولا مهارة سائقها ، الذي نجح في ايقافها في آخر لحظة .

ترجلَّ من السيارة السوداء الغريبة أربعة رجال ملثمون ، كانوا يطلقون الرصاص في كافة الاتجاهات ، بكثافة وبدون تحديد . وبعد أن تمكنوا من قتل اثنين من الحراس المرافقين للطفل الأغلى اندفع أحدهم نحو باب السيارة من الجهة التي كان يجلس فيها الأغلى وفتحها ، ثم سحب الطفل من بين ذراعي أُمه المتشبثة به وبملابسه بكل قوة ، والتي أخذت تصرخ بصورة جنونية ، فلطمها أحدهم بوحشية على وجهها ، فأطلقت ولدها من شدة الألم ، وفقدت بعدها وعيها .

أمسكوا بالطفل بعنف شديد وكمموا فمه ، وعصبوا عينيه ، وأجلسوه في المقعد الخلفي لسيارتهم ، بين اثنين من الرجال ضخام الجسد . وطارت السيارة الغريبة السوداء بحمولتها الغالية دون ترك أي أثر . وقد حدثت جميع تفاصيل هذه الأحداث خلال ثانيتين أو ثلاثة لا غير . وقامت الدنيا بعدها ولم تقعد .

فوالده يملك من المال ما يمكنه من دفع فدية ابنه بأطنان من الأموال الورقية والمعدنية ، وبأي عُملة أو نقد هم سيطالبونه به .
ووضع رجال الشرطة الخطط في الامساك بالخاطفين . حيث جُهز بيت الطفل بعشرات من أجهزة التنصت والكاميرات تحسباً لأي اتصال يمكن أن يقوم به الخاطفون . واندست عشرات العيون الأمنية لمراقبة جميع الطرق المؤدية الى بيته ، لئلا يزوره أحدهم ، حتى ولو تمت تلك الزيارة عند الفجر . ووزع رجال الأمن آلاف الصور لوجه الصبي على الصحف لنشرها في اليوم التالي ، وأُظهرت على جميع شاشات المحطات التلفزيونية لعل أحدهم يراه ويتمكن من الاتصال بوالديه ، أو بمكاتب الأمن . ورغم كل ذلك … لا أثر لهم .

واصلت السيارة الغريبة السوداء انطلاقها ، سائقها رغم انتباهه ومهارته في ادارة مقود مركبته ، ونتيجة لسرعته المتناهية ، وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بساعتين ، فقد فقدَ سيطرته على ذلك المقود للحظة من الزمن ، فكانت تلك اللحظة كافية لخروج مركبته عن الطريق وانقلابها ودحرجتها حول نفسها مرات عديدة ، ومات كل من كان بداخلها ما عدا الأغلى الذي حماه جسديّ الحارسين الضخمين اللذين كانا جالسين على جانبيه من جهتي اليسار واليمين .

بعث انقلاب السيارة الخوف الشديد في قلب الطفل ، خاصة وهو معصوب العينين ، فاقد القدرة على أن يرى شيئا ، مما حال دون قدرته على أن يفهم ماذا حدث بالضبط . بعد فترة قصيرة سكن كل شيء ، وكانت أصوات دوران عجلات السيارة المنقلبة الأمامية والخلفية ، التي أضحت تدور في الهواء ، هو الصوت الوحيد الذي كان يُسمع في تلك اللحظة ، وساد هدوء غريب .

فتحرك الطفل قليلا من الموضع الذي حُشر داخله ، وحرر ذراعيه ، ونجح في تخليص نفسه من عُصابة عينيه ، وانتزع بقوة كمامة فمه ، والذي ساعد على ذلك انه لم يكن موثوق اليدين . وبدأ يزحف ببطئ تحت الرجال الموتى السابحين في دمائهم ، رافعا عن جسده يد هذا ، مُبعدا عنه رأس ذاك ، وتمكن أخيرا في أن ينسل خارج هيكل السيارة المعدني المحطم .

جلس وحيدا خائفا ، ناظراً حوله فاذا هو في مكان مجهول بالنسبة اليه ، جالسا على حافة طريق سريع يمتد أمامه ، لا يعرف من أين يبدأ أو الى اين يتجه ، وقد ساد ظلام مخيف غطى سماء المدينة كلها .

أخذ الغالي يتفحص المكان لعله يرى شيئا ما يرشده أو ينقذه من المحنة التي هو فيها ، فهو رغم صغر سنه ، كان يستطيع أن يتعامل مع المواقف الصعبة دون خوف ، خاصة وهو لم يجرب الخوف الشديد من قبل ، كما هو الحال الذي عليه الآن . وفجأة … رفع رأسه بعيدا عن الأرض ، الى فوق ، انتبه اليه … انه بعيد جدا ، ورغم ذلك لمحه مضيئا فوق سطوح العديد من البنايات البعيدة السابحة وسط ظلام دامس .

كان هو الشكل الوحيد السابح في بحر من النور ، وقد تعود أن يراه أمامه ، منذ بداية اسبوع احتفالات أعياد الميلاد … انه صليب الكنيسة التي زارها في منتصف ليلة نفس هذا اليوم .
ولأنه يعرفه ويستطيع أن يميزه من بين مئات الأشجار وسطوح البنايات وأعمدة الكهرباء وأسلاكها ، ولأنه أحبه منذ أن كان يراقبه من شرفة منزله ، ولأنه الوحيد الذي يمكن أن يحدد له اتجاه سيره في ظلمة دروب هذه المدينة الغريبة عنه ، خاصة بعد ضياعه فيها ، قرر أن يتخذ صليب الكنيسة المرتفع مرشدا له في رحلة عودته .

وبدأ يتحرك سائرا في الدروب ، مخترقا الطرقات ، قاطعا الشوارع ، وعينيه مثبتة على صليب الكنيسة ، وأضواءه الجميلة التي تتلألأ محيطة به من قمته حتى قاعدته .
وأخيرا نجح في الوصول الى مبنى تلك الكنيسة التي يعرفها حق المعرفة ، لقد حضر اليها قبل ساعات من اختطافه .

دخلها عند الفجر ، تعبا جدا ، لا يقوى على السير من شدة الانهاك والبرد . لقد كانت تلك الكنيسة خالية بدورها وباردة . انه لا يعرف أحد فيها ، ما عدا يسوع ، أو مكان مميز داخلها ، ما عدا مغارة يسوع التي أحبها ، وهي الموضع الوحيد الذي تُرك في تلك الليلة مضيئا داخل الكنيسة من أجل احتفالات أعياد الميلاد .

قضى الرجال الليل بطوله يبحثون عنه ، لقد عثروا على السيارة المنقلبة في موضعها ، وعثروا على جميع جثثت ركابها ، ولكنهم لم يعثروا على الأغلى الذي جميعهم كانوا يبحثون عنه .

وأخيرا عند الصباح رفع راعي الكنيسة هاتف مكتبه وكلّم رجال الأمن قائلا :
- أرجو حضوركم . الطفل الذي تبحثون عنه موجودا داخل مبنى الكنيسة .
اندفع عشرات من رجال الأمن الى داخل البناية ، حيث قادهم راعيها الى مغارة الطفل يسوع ، التي ما زالت بدورها تسبح في أنوارها ليجدوا الطفل الأغلى نائما في المذود بجانب يسوع ، الذي ابتعد قليلا عن وسط المذود ، مقتربا قليلا من احدى جانبيه ، ليفسح مجالا أكبر لنوم الأغلى بجانبه في مذوده . وكانت ذراعا يسوع تضمان جسد الطفل الأغلى ، أما غطاءه فقد قام الأغلى بسحبه والقاءه فوق جسده المتعب . واستسلم بكل اطمئنان لنوم جميل ، ساعدت الاضاءة المركزّة على موضع المغارة من بعث الدفء والارتياح في جسده .

رفع راعي الكنيسة هاتف مكتبه للمرة الثانية وأتصل بوالد الأغلى قائلا :
- اطمئن يا سيدي … ولا تخف ، فقد وجدنا ابنك نائما في مذود ، يحرسه يسوع






0 التعليقات:

إرسال تعليق

سلام ونعمه

يتم التشغيل بواسطة Blogger.